في مسيرة شعبية وتلقائية، لم تشهد المدن المغربية مثيلا لها من حيث الأعداد المشاركة فيها، منذ مسيرات الربيع الديمقراطي المغربي عام 2011، خرج عشرات الآلاف المغاربة للتظاهرة ضد العدوان الإسرائيلي المستمر منذ أسبوع ضد الفلسطينيين في غزة المحاصرة، ومطالبين بوقف التطبيع مع إسرائيل الذي انخرط فيه المغرب منذ عام 2020.
المسيرة التي شهدت مشاركة واسعة من جميع أطياف الشعب المغربي الذين حضروا من عدة مدن للتعبير عن تضامنهم مع القضية الفلسطينية، اختار لها منظموها شعار “الشعب المغربي مع طوفان الأقصى وضد التطبيع”.
وعلى طول الشارع الرئيسي في مدينة الرباط الذي عبرته المسيرة، ويمتد قرابة كيلومترين، رفع المتظاهرون العديد من الشعارات التي تعلن تضامنهم مع الشعب الفلسطيني، وفي نفس الوقت تدين الموقف العربي الرسمي مما يجري الآن في غزة المحاصرة من إبادة جماعية. لكن الشعار الموحد الذي تردد على طول خط المسيرة وردده أكثر من مرة، وفي صيغ مختلفة، المتظاهرون كان هو شعار وقف التطبيع المغربي الرسمي مع إسرائيل.
المسيرة التي دعت لها كل من الجبهة المغربية لدعم فلسطين ومناهضة التطبيع، ومجموعة العمل الوطنية من أجل فلسطين، وجماعة العدل والإحسان وفيدرالية اليسار الديمقراطي والنهج الديمقراطي العمالي وشبيبة العدالة والتنمية وحركة التوحيد والإصلاح ونقابات الكونفدرالية الديمقراطية للشغل والاتحاد الوطني للشغل بالمغرب وجامعة التعليم التوجه الديمقراطي، وغيرها من التنظيمات السياسية والنقابية والمهنية، عرفت مشاركة شرائح مختلفة من الشعب المغربي، وهي بذلك تمثل أول وأكبر استفتاء شعبي يطالب بإسقاط التطبيع.
ومن خلال قراءة شعارات المسيرة سواء منها تلك التي رٌفعت على لافتات، أو تلك التي رددها المتظاهرون، تبرز رسالتان جوهريتان أراد المشاركون في المسيرة تبليغهما إلى الخارج والداخل.
ودائما على مستوى رسالة الخارج، فإن الهدف من هذه المسيرة كان هو لفت انتباه الرأي العام الفلسطيني والرأي العام في العالم، بأن الشعب الفلسطيني ليس وحده في مقاومته ضد المحتل الإسرائيلي، وهذه رسالة تكررت أكثر من مرة يوم الجمعة الماضية في ما سمي بـ “نفير الأقصى”، وتجسد في مسيرات شعبية حاشدة شهدتها العديد من الدول العربية والإسلامية، وجاءت مسيرة الشعب المغرب في الرباط لتعلن اصطفاف الشعب المغربي إلى جانب شعوب العالم الحرة المنددة بالظلم وبازدواجية المعايير الغربية.
وإذا كانت الرسالة الأولى مبدئية، وهي من صميم مواقف الشعب المغربي المناصر للقضية الفلسطينية، فإن الرسالة الثانية، كانت ذات طبيعة سياسية موجهة إلى الداخل المغربي، وخاصة إلى صانع القرار المغربي وتتعلق بوقف التطبيع مع إسرائيل. وهذه الرسالة، ليست جديدة بما أنه سبق لعدة تعبيرات سياسية ومدنية في المغرب أن عبرت عن رفضها لقرار التطبيع الذي فرضته السلطات المغربية على أغلبية الشعب المغربي، لكن هذه هي المرة الأولى التي يٌسمح فيها لأطياف واسعة من الشعب المغربي، تمثل حساسيات سياسية مختلفة، للتعبير عن رأيها الرافض للتطبيع مع إسرائيل.
الكرة الآن في ملعب السلطات المغربية التي ما زالت تقف موقف المتفرج مما يجري في غزة من إبادة للشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية، وقد تجنب الملك محمد السادس، الذي يرأس “لجنة القدس” في خطابه المتلفز يوم الجمعة، أمام البرلمان، الحديث عما يجري في غزة، والمواقف المغربي الرسمي الخجول هو ما عبر عنه بيان صادر عن وزارة الخارجية المغربية يساوي بين الضحية والجلاد، ويدين قتل المدنيين من الجانبين ويدعو إلى التهدئة والعودة إلى طاولة المفاوضات، وهو نفس الموقف الذي حملته الدبلوماسية المغربية إلى الجامعة العربية، باعتبار المغرب هو الرئيس الدوري لهذا التنظيم الإقليمي، وتم تبنيه من طرف الدول التي تربطها علاقات، أو تلك الساعية إلى ربط علاقات مع إسرائيل، ومعارضة الدول التي ترفض التطبيع.
لقد سبق للمغرب عام 2000 أن قرر وقف التطبيع مع إسرائيل، وقرر إغلاق مكتبي الاتصال الإسرائيلي في الرباط والمغربي في تل أبيب. وبرر آنذاك بيان وزارة الخارجية المغربية قرار الرباط بأنه جاء بسبب “انتكاسة عملية السلام عقب الأعمال اللاإنسانية التي ترتكبها القوات الإسرائيلية منذ أسابيع في حق أبناء الشعب الفلسطيني الأعزل واستخدامها الآلة الحربية لقتل المدنيين الأبرياء، ونظرا للظروف الخطيرة التي خلقتها الحكومة الإسرائيلية في الأراضى الفلسطينية، وموقفها المتعنت بإعلانها عن توقيف عملية السلام، ونظرا لمسئولية المغرب والتزاماته فى نطاق لجنة القدس التى يرأسها الملك محمد السادس ، من أجل دعم مسلسل السلام”. إن ما ارتكبته وترتكبه إسرائيل اليوم من قتل جماعي للفلسطينيين المحاصرين في قطاع غزة منذ 16 سنة، وجرائم الإبادة الجماعية التي ترتكب يوميا، وقد ذهب ضحيتها حتى الآن الآلاف من الشهداء والجرحى، كلهم من المدنيين وأكثر من نصفهم من الأطفال والنساء، والعقاب الجماعي الذي فرضته حكومة الحرب في تل أبيب على مليون و300 ألف فلسطيني، هم سكان قطاع غزة، بمنع الماء والكهرباء والوقود عنهم منذ سبعة أيام، ودعوتها السكان الفلسطينيين المدنيين العزل إلى الهجرة خارج ديارهم ودولتهم وتهديدهم بالقتل والإبادة ، ولم تستثنى من هذا التهديد حتى المستشفيات التي تعج بآلاف الجرحي وسط نقص فادح في الدواء، بل وحتى في الوقود الذي قد ينتهي احتياطه في الساعات أو الأيام المقبلة، وقرار الحرب الذي اتخذته حكومة الحرب في تل أبيب باجتياح غزة وتدميرها عن آخرها، كلها أفعال أكثر شناعة بل وبشاعة مما حصل عام 2000 ودفع السلطة المغربية إلى اتخاذ قرارها بقطع كل صلاتها مع إسرائيل.
السلطة السياسية المغربية اليوم مطالبة بموقف يرقى إلى مستوى الشعارات التي رفعتها مسيرة الشعب المغربي في الرباط، وإلى مستوى موقفها الذي اتخذته عام 2000، وإلى مستوى المسؤولية السياسية والأخلاقية التي تتحملها بوصف عاهلها الملك محمد السادس هو رئيس لجنة القدس.
لقد بررت السلطة المغربية قرراها الأحادي، بالمضي في التطبيع مع إسرائيل، بالرغبة في دعم لغة الحوار والتفاهم لتسهيل التوصل إلى السلام العادل والشامل، وأمام الغطرسة بل والهمجية الإسرائيلية التي تكشر عنها إسرائيل اليوم، غير مبالية بالسماع إلى صوت العقل وإلى نداءات أصحاب الضمائر الحية في العالم، فإن أقل قرار يمكن للمغرب أن يتخذه ردا على هذه العجرفة والعنجهية الإسرائيلية، بل الإجرام الإسرائيلي، وتضامنا مع ضحاياه من المدنيين العزل من الأطفال والنساء الأبرياء هو إعلان وقف التطبيع وإعادة إغلاق مكتب الكيان الصهيوني في الرباط وطرد ممثله من المغرب. وهذا أضعف الإيمان.