المصطفى المريزق / فاعل حقوقي وأستاذ جامعي
مرت 20 سنة على ميلاد هيئة الإنصاف والمصالحة، التي تم إقرارها بموجب ظهير 10 أبريل سنة 2004، من خلالها دخل المغرب في فئة “الدول التي لديها لجنة مصالحة”، وكان لها آثار “ثوري” على المجتمع وشكلت ولا تزال تجربة فريدة من نوعها في العالم العربي والإسلامي على مستوى طي ملف الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وهي تقترب من التجارب الدولية الأخرى وخاصة تجارب أمريكا الجنوبية.
وبهذه المناسبة، وإسهاما في النقاش العمومي، نعتقد أن هذه التجربة كتب عنها الكثير وقدمت خدمات جليلة للوطن، واستعملت كموضوع علمي للكشف عن المعضلات والقضايا التي لا زال يعاني منها مجتمعنا، رغم النقص الحاصل على مستوى التوجه النقدي والموضوعي الذي تعتمده العديد من القراءات لهذه التجربة.
وفي هذا الإطار، نريد أن نتعاطى مع أساسيات هذا الموضوع انطلاقا من إشباع الفاعلين في المجتمع إلى الاطمئنان والأمان، وحاجتهم إلى العطف والحب والإنتماء، وحاجتهم إلى الاهتمام والكرامة والتقدير والاعتراف والاستقلالية، والحاجة إلى تقدير الذات وتحيينها وتحقيقها في العديد من المجالات، وفي مقدمتها الأسس الضرورية لتطوير المفهوم السياسي للعدالة والذكاء الديمقراطي، والشعور بالعدالة بالنسبة للقانون، دون دحض الأولوية الأخلاقية لمبادئ العدالة للمؤسسات، وإعادة ترسيخ القيمة الأخلاقية للعدالة للأفراد والجماعات مع الآخرين ومن أجلهم، في مؤسسات عادلة.
نعتقد اليوم أن الاعتراف بما حققه المغرب في مجال الإنصاف والمصالحة، يجب أن يكون نابعا من عمق فلسفة وثقافة الاعتراف، وأن يشكل هذا المبدأ القيد المعياري لجميع التفاعلات على مستوى المجتمع.
ومن هنا تبرز الحاجة إلى الاعتراف كعنصر أساسي في بناء هويتنا الحقوقية، من دون أن ننسى وزن الاختلاف الثقافي في تفسير ومكانة النخبة المغربية لهذه التجربة على مستوى سرد حياتها وتجاربها القاسية في الحياة، وجمع كل تراكمات آلامهما وخيبة آمالها.
وهنا نذكر بأن حقوق الإنسان هي، أولا وقبل كل شيء، أحد المداخل النظرية والتحليلية التي ترتبط بقضايا التحول والانتقال الديمقراطي، وبالتالي لا يجب أن ننسى قيمة الإسهام الذي قدمته تجربة “الإنصاف والمصالحة” في إقرار المصالحة مع الماضي وحفظ الذاكرة وغرس القيم المرتبطة بحقوق الإنسان وما يتطلب ذلك من أهمية تكريسها والحفاظ على مكتسباتها لكي لا يتكرر ما وقع، بعيدا عن الطابع النفعي المرتبط بالاستراتيجيات السياسية والجزء غير القابل للاختزال في أي علاقة قوة.
إن الاحتفال بالذكرى العشرينية ل “الإنصاف والمصالحة” هي فرصة لإعمال ثقافة التقييم، ونشر ثقافة حقوق الإنسان، وتوفير المعارف والمهارات لغرس المواقف والسلوكيات التي تسمح للناس بالمشاركة في حياة أفضل، وهي عملية شاملة يجب أن تتواصل في الزمان والمكان، لأن حقوق الإنسان ليست مجرد قيم نكيفها مع الثقافات أو الهويّات المحليّة، وليس احترامها اختيار سياسي واستراتيجي فقط، بل هو التزام قانوني على الجميع أن ينخرط فيه.
وهذه فرصة لقياس النتائج والأهداف التي سطرها تقرير الهيئة، والارتقاء بها إلى مستوى استراتيجيات ورهانات قانونية وسياسية تربط الحاضر بالماضي، وجعلها في قلب برامج المنظومة التعليمية والبحثية والإعلامية وديناميات منظمات المجتمع المدني، ونشرها نشرا شاملا بمساهمة كل الأطراف، الدولة والمجتمع المدني والمؤسسات البحثية والجامعات والمدارس لإحراز تقدم ملحوظ في تكريسها.
وعلى ضوء ما سبق، وانطلاقا من العديد من التقارير التي نشرتها لجن تقصي الحقائق ذات صلة بالحكامة الأمنية وبالقضايا الاقتصادية والاجتماعية والحريات وحرية الرأي وحرية التظاهر، والتي لامست حقوق وإشكاليات، ساعدت على تتبع قضايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان ومكنت العديد من المتتبعين لها من مؤشرات موضوعية لتقييم مدى تطور حقوق الإنسان ببلادنا.
إنها محطة مفصلية من محطات الاعتراف الرسمي للدولة بأخطائها في تدبير الاختلاف عن طريق قمع الحريات، وتعبيد الطريق نحو سيادة دولة المؤسسات والحق والقانون؛ ومسار من المسارات الرائدة في تاريخ دولة العهد الجديد، والتي تستحق كل الاحترام والتقدير، وربطها عضويا بثقافة الاعتراف من أجل المستقبل، وإعمالها في الاعتماد أساسا على تنمية المجتمع وطاقاته وإمكانياته وإبداعاته التي تشكل مؤسسات حقيقية للدفاع الذاتي للمجتمع.
ومن دون الرجوع إلى السياق التاريخي التي جاءت فيه هيئة الإنصاف والمصالحة، والذي نشرت حوله العديد من الأبحاث والكتابات والتقارير، تعتبر الذكرى العشرينية فرصة مهمة لفتح نقاش عمومي حول ما تجاوزته بلادنا من صراعات حزبية ومن أحداث عنيفة في العديد من مناطق الريف والأطلس، والتي كانت سببا مباشرا في اندلاع صراعات دموية واحتجاجات واعتقالات ومحاولات انقلابات فاشلة..إلخ, لا زالت قراءتها من قبل المؤرخين والباحثين تحتاج إلى المزيد من الضوء والاجتهاد والبحث والدراسة.
وفي هذا السياق، نعتبر هذه المحطة العشرينية، مناسبة كذلك لجعل تجربة الإنصاف والمصالحة منارة لتأمل شروط وجودها داخل المجتمع، والتي علينا أن نخرجها من ثنائية المنهزم والمنتصر، ومن خطاب الأزمة والقطيعة من جانب، والصراعات من جانب آخر، وأن نتحد جميعا لجعلها ركنا من أركان تنظيم اجتماعي وثقافي جديد.
قد يعتبر البعض، أن الإنجازات التي تحقّقت خلال العقود الماضية لا تزال هشة وأن مبادئ حقوق الإنسان أمست مهدّدة بشكل متزايد؛ طبعا، لا زال سؤال الظلم والمعاناة والفقر يلقي بظلاله على مجتمعنا، خاصة أمام التحديات العديدة التي تواجهنا، وأمام تفشي الحركات الشعبوية والمتطرفة، والنزاعات الدولية والقطرية التي طال أمدها.
لكن ما يجعل اليوم تجربة الإنصاف والمصالحة منارة أخلاقية وإستراتيجية حقوقية و سياسية، هو أنها خلقت دينامية سياسية جديدة داخل مجتمعنا، قبل أن يشهد جزء من العالم العربي غليانا واحتجاجات ورجات ثورية وحركات اجتماعية جديدة كانت وراء تغيير أنظمة بكامله، بتزامن مع تغول العولمة الاقتصادية والهيمنة الأمريكية وانتشار لوبيات الضغط عبر العالم، في زمن لم تعد فيه قدرة الانتخابات أو الانتماءات الحزبية أو القوى النقابية قادرة على إنجاز مهام التغيير.
وهنا نستحضر خطاب العاهل المغربي الملك محمد السادس حول الإصلاحات الدستورية، الذي لقي ترحيبا محليا ودوليا، وقرأت فيه العديد من الأوساط ثورة استباقية لثورة حقوقية واجتماعية مـقبلة.
وهو الخطاب الذي وجهه ملك البلاد للشعب المغربي مساء الأربعاء 9 مارس 2011، بعد 7 سنوات كانت قد مرت من عمر هيئة الإنصاف والمصالحة، والذي أعلن فيه الاستفتاء على مشروع تعديلات دستورية تتعلّـق بآليات ومؤسسات الحـكم، وتكريس التنوّع ودسترة اللغة الأمازيغية وترسيخ دولة الحقّ والقانون وفصل السـلط وتوازنها، من خلال انتخابات نزيهة، وصلاحيات أوسع للبرلمان وسلطات أوسع للحكومة ورئيسها، الذي سيكون من الحزب الفائز بالانتخابات، وتقوية دور الأحزاب والمجتمع المدني وضمان التعدُّدية، وهو لحظة تاريخية متميزة في التطوّر الدستوري والسياسي ببلادنا، توجت بدستور 2011.
ورغم ما تلا هذه المرحلة من أزمة وانسداد الآفاق، ظل البحث عن مغرب المستقبل في ظل ثنائية الجذب والصراع بين الحركات الاجتماعية التي استمرت في عدائها للأحزاب متهمة إياها بالبيروقراطية وإنتاج فاعلين فاسدين، وبين الأحزاب التي كانت تعتبر هذه الحركات مجرد حركات ملغومة، مندفعة وغير مسؤولة.
إذن، قيمة تجربة الإنصاف والمصالحة ومنجزاتها، هو ما يجب مناقشته في ضوء ما شهدته بلادنا من أحداث ووقائع خلال هذه المرحلة، وما شهده ويشهده العالم الآن من تحولات قد يتفاوت حجمها من بلد لآخر، وحجم الانتظارات وتنوع الفاعلين. وهذا أمر طبيعي جدا بالنسبة لأي تجربة.
وفي الختام، إذا كانت منارة الإنصاف والمصالحة حقيقة أخلاقية واستراتيجية حقوقية وسياسية، ترجمت على مستوى تفعيل توصياتها في العديد من المجالات، فإن فتح منافذ جديدة للنقاش والحوار، بات يستدعي في نظرنا تجاوز نقاش ماضي الانتهاكات الجسيمة، والتوجه إلى تعزيز النقاش العمومي حول رهانات تصليب عود البناء الديمقراطي ببلادنا، عن طريق السلم، وسيادة القانون.