يعتبر القضاء أهم مكونات منظومة العدالة، التي تسهر على التطبيق السليم للقانون، وما يترتب على ذلك من سيادة العدل والاستقرار في المجتمع. وقد أكد الدستور المغربي بموجب الفصل 107 على استقلالية السلطة القضائية عن السلطة التشريعية “التي تسن القوانين”. وكذلك عن السلطة التنفيذية. ويُشكل القضاء أحد المصادر التفسيرية للقانون!؛ لأن القاضي يُحمل في كثير من الأحيان إلى تفسير وتأويل قواعد القانون وتكييفها. وملء ما قد يتخللها من فراغ. واستيضاح ما يكتنفها من غموض من خلال الاجتهاد القضائي .وهنا تبرز أهمية دور القضاء باعتباره مصدراً من مصادر القاعدة القانونية، وقد تكرس مفهوم فصل السلط أواخر القرن 18 مع كتابات مونتسكيو.
ان العلاقة التي تربط القضاء بالقانون هي علاقة تأثير وتأثر، فالقاضي لكي يصبحَ قاضياً لابد له أن يدرس القانون.ورغم ان القاضي يطبق القانون على المنازعات التي تعرض امامه فهو ايضاً يساهم في تجويده. كما انه يخضع له. حيث يعتبر القانون الموجه الأساسي لوظيفة القاضي والمنظم لنطاق اشتغاله في مختلف القضايا.
فما مدى التداخل الحاصل بين كل من القانون والقضاء ؟
في محاولة منا للإحاطة بالإشكالية أعلاه سنعتمد التصميم الآتي:
فرغم أن القاضي يطبق القانون (أولاً) الا أنه في أحيان أخرى يطبق عليه القانون (تانياً) حيث تقع على عاتقه مجموعة من الالتزامات يتعين عليه احترامها تحت طائلة المسؤولية.
أولاً: موقع القضاء من تطبيق القاعدة القانونية
ينص الفصل 117 من الدستور على أنه: “يتولى القاضي حماية حقوق الأشخاص والجماعات وحرياتهم وأمنهم القضائي وتطبيق القانون”. والملاحظُ ان تطبيق القضاء للقانون يتسع ويضيق حسب نوعية القضايا التي ينظر فيها.
أ): تطبيق القاضي للقانون في الميدان المدني
في كثير من الحالات يجد القاضي نفسه أمام نصوص قانونية غير واضحة و غامضة، ولا يظهر ذلك إلا عند التطبيق وهنا يتعين عليه ان يلجأ الى التفسير. او يجد القاضي نفسه أمام فراغ تشريعي يحكم النازلة المعروضة عليه حيث يلجأ للاجتهاد.
يعتبر التفسير القضائي من أهم أنواع تفسير القواعد القانونية الى جانب التفسير الفقهي والتفسير التشريعي، ويكون له موجب عندما يشوب القاعدة القانونية غموض على مستوى الصياغة، او اختلاف في مدلوله، حيث يمكن للقاضي في محاولته تفسير النص القانوني ان يلجأ للقياس وغيره من طرق التفسير … كما يمكن للقاضي ان يفسر العقود “التي تعتبر شريعة المتعاقدين” عندما يطلب منه ذلك؛ وقد نظم المشرع المغربي قواعد التفسير ضمن الكتاب الأول من ظهير الالتزامات والعقود تحت عنوان “في تأويل الاتفاقات”.
حيث جاء في الفصل 461 “اذا كانت ألفاظ العقد صريحة. امتنع البحث عن قصد صاحبها” من خلال هذا الفصل يتبين ان سلطة القاضي تكون ضيقة في تفسير العقد اذا كانت عباراته واضحة حيث ان العقد الواضح لا يفسر بل يتنفذ. غير ان المشرع جاء في الفصل 462 من ظ.ل.ع وحدد بعض الحالات التي تستوجب تدخل القاضي لتفسير من بينها؛ الحالة التي يصعب فيها التوفيق بين الالفاظ المستخدمة وبين الغرض الواضح الذي قصد عند تحرير العقد. فقد يطلق المتعاقدان على نفسهما صفة المودع والودیع في حین ان في نیتهما ابرام عقد قرض.
ب): تطبيق القاضي للقانون في الميدان الجنائي
يعتبر تدخل القضاء في الميدان الجنائي من اكثر المواضيع حساسية، حيث تكون سلطة القاضي مقيدة أكثر، فلا يعاقب الفرد إلا إذا كان الفعل الذي أتاه مجرمًا قبل إتيانه. اعتبارا للمبدأ القائل: “لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص” هو ما يعرف بمبدأ الشرعية الجنائية. الذي يعتبر من أهم الضوابط المقيدة لسلطة القاضي من حيث توقيعه لجزاء. حيث نص المشرع المغربي في الفصل 3 من مجموعة القانون الجنائي على أنه لا يسوغ مؤاخذة أحد على فعل لا يعد جريمة بصريح القانون ولا معاقبته بعقوبات لم يقررها القانون. ويترتب على مبدأ الشرعية مجموعة من النتائج. أهمها. مبدأ عدم التوسع في تفسير النصوص الجنائية.
لأنه كما سبق وقلنا فدور القاضي في المجال الجنائي مقيد أكثر منه في الميدان المدني، إذ لا يجوز للقضاء التوسع في تفسير النصوص الجنائية وإنما تفسيرها على نحو يببن غرض المشرع وإرادته الحقيقية التي يعبر عنها النص . وعلى ذلك يحضر القياس في مجال التجريم فلا يجوز تجريم فعل لم يرد فيه نص قياسا على فعل اخر جرمه نص صريح بحجة تشابه الفعلين …
ثانياً: موقع القضاء من الخضوع للقانون
ان موقع القاضي يفرض عليه احترام القانون والالتزام به. والخضوع له، ويترتب على ذلك مجموعة من الالتزامات أهمها، انه لا يحق له الامتناع عن الحكم او اصدار قرار. اذ يجب عليه البت بحكم في كل قضية رفعت له، حسب ما جاء في الفصل 2 من قانون المسطرة المدنية. فمادام ان القاعدة القانونية قاعدة عامة ومجردة تطبق على جميع الوقائع والاحداث. التي تخاطبها هذه القاعدة؛ فانه ينبغي على القاضي امام هذه الوقائع الا يمتنع عن اصدار حكم تحت ذريعة سكوت النص القانوني او غموضه.
والا اعتبر مرتكباً لجريمة انكار العدالة، كما يلتزم القضاة بالبت في القضايا داخل أجل معقول، وهو ما جاء به الفصل 120 لكل شخص الحق في محاكمة عادلة. وفي حكم يصدر داخل أجل معقول. كما يمنع على القضاة الانخراط في الأحزاب السياسية والمنظمات النقالية. ويمنع عليهم كذلك القيامبأي عمل فردي أو جماعي كيفما كانت طبيعته قد يؤدي إلى وقف أو عرقلة عقد الجلسات أو السير العادي للمحاكم حسب المادة 46من النظام الأساسي للقضاء.
يمنع على القضاة أن يمارسوا خارج مهامهم .ولو بصفة عرضية، أي نشاط مهني، كيفما كانت طبيعته بأجر أو بدونه؛ يحظر على القاضي ايضا ًإبداء رأيه في أي قضية معروضة على القضاء. حسب ما جاء في النظام الأساسي للقضاء. يلتزم كل قاض بالمشاركة في دورات وبرامج التكوين المستمر. التي تنظم لفائدة القضاة. ناهيك عن كون مدونة الأخلاقيات القضائية الصادرة عن المجلس الأعلى للسلطة القضائية، سطرت مجموعة من الالتزامات والقواعد الأخلاقية. التي يجب ان ينضبط لها القضاة على رأسها واجب التحفظ الذي يقصد به حرص القاضي في سلوكه وتعبيره على الاتزان والرصانة وعدم إبداء آراء ومواقف من شأنها المساس بثقة المتقاضين في استقلال وحياد القضاء. وذلك مهما كانت وسائل الاتصال ومواقع التواصل المستخدمة. ودون الإخال بالحق الدستوري للقضاة في التعبير
ملاحظة :
عتبر القضاء في المغرب على غرار الأنظمة اللاتينية مصدراً تفسيرياً، حيث ان الاحكام القضائية لا تعتبر ملزمة للقضاة، بخلاف الوضع السائد في الأنظمة الانجلوسكسونية. حيث يتم الاعتداد بنظام السوابق القضائية… (الدكتور عبد الرحمان الشرقاوي. المدخل لدراسة العلوم القانونية، الصفحة 11)