الواقع الإعلامي المغربي بين سياسة الواقع وواقع السياسة القائمة
حميمداني محمد
حميمداني محمد
دار في الآونة الأخيرة نقاش مستفيض حمل وجهين متلازمين. الأول مصدره إحدى الجمعيات التي تدعي تمثيلية فئات من الإعلاميين والموثقة لعرى اتفاقية مع الوزارة الوصية. خادمة لتلك الاتفاقية وممررة لقرارات خطيرة تستهدف الواقع الإعلامي والحرية الإعلامية. وفي الجهة المقابلة جزرة قدمتها الوزارة في حديثها عن الدعم ومستلزماته بما يثخن الثخين ويقضي على كل إمكانية حياة لمؤسسات إعلامية وطنية فعلية. تجاهد من أجل تكريس استقلاليتها وضمان استمراريتها أمام قوة الخناجر الموجهة والمعيقة لتطور الديمقراطية بشكلها المغربي.
نتناول الموضوع في سياق البحث عن إعلام مغربي مستقل وقوي. قادر على رفع التحديات والدفاع عن القضايا الوطنية والإنسانية. وتربية المواطن على قيم الديمقراطية واحترام الاختلاف والتعددية باعتبارها عنصر بناء وقوة لازمين للبناء الديمقراطي والمؤسساتي.
فلا يمكن بالمطلق الحديث عن ديمقراطية بدون إعلام حر مستقل قادر على التعبير والمشاركة بفعالية في عملية البناء. من موقع المنتج لا المستهلك للخطاب الحكومي أو الجمعوي الرديف.
وفي هذا الشأن برزت مؤخراً قضية الجمعيات المهنية العاملة في مجال الصحافة كعامل معيق لهذا الهدف. حيث أضحت هذه الجمعيات تلعب دوراً سلبياً في المشهد الإعلامي. فبدلاً من أن تكون عنصر بناء ودعم وسند للصحافيين للارتقاء بالمهنة وتعزيز المسار الديمقراطي. باتت تلك الجمعيات في تحالفها مع الوزارة الوصية تشكل عنصر عرقلة. بل تكريس للفوضى والبراغماتية على حساب الإعلام والحرية الإعلامية والممارسة الإعلامية الحقة والتعبير عن مطالب العاملين في قطاع الصحافة والإعلام. وذلك في ضرب لأسس الإعلام المستقل. حيث أصبحت خادمة للسلطة وممررة لقراراتها التخريبية داخل القطاع. والتي انطلقت معالمها الأولى مع الإعلام الرياضي فيما وقع اثناء مونديال قطر وكأس أمم أفريقيا.
والأدهى من ذلك ما يمكن تسجيله من فساد وفوضى تضرب العصبة الاحترافية وما أفرزته من روائح نثنة وصلت ردهات المحاكم ولا تزال الملفات مفتوحة. واشهرها قضية التلاعب بتذاكر مونديال قطر وهلم جرا.
يقول المثل أن الذئب قيل له يوما ما أنه سيتم ائتمانه على قطيع الغنم. فأجهش بالبكاء. لعدم تصديقه خبر قيادة خرفان يشتهي الحصول عليها بأي ثمن. فما بالك إن أتت إليه رخيصة طيعة صاغرة ليفعل فيها ما شاء وأحب واشتهى. هو واقع ما نعيشه اليوم في الحقل الإعلامي. فتلاقي المصالح جعلت فئة قليلة من المستنفعين من فناء الغنائم الوفيرة تستأسد على المواقع التدبيرية مستفيدة من خيرات القطاع لخدمة نفعية ضيقة على حساب الإعلاميين والاطقم الصحافية بمختلف درجاتها.
ضرب بطاقة الصحافة والخروج بفزاعة بطاقة الملاعب
أبرز مظاهر هذا الفساد والهيمنة ومحاولة تركيع الإعلاميين ابتداع تخريجات لا علاقة لها بواقع البناء الإعلامي. ولا بأسس الديمقراطية التشاركية. حيث تم ابتكار زورا ما اصطلحت على تسميته تلك الجمعية بالتنسيق مع العصبة والأكيد أن هناك حضورا رسميا مزكيا لهذا القرار الصفقة بالنسبة لهؤلاء. والصفعة للصحافيين والصحافيات وأهل الإعلام.
ففزاعة “بطاقة الملاعب” التي تم ابتداعها ظلما وعدوانا في ضرب لحق مشروع مارسه الإعلاميون منذ زمن طويل. والأمر يتعلق ببطاقة الصحافة التي كانت معتمدة سابقا لتغطية الأنشطة الرياضية. لنصبح بقوة قادر وغباوة هاته التخريجة أمام رزمة من البطائق مستقبلا: “اللهم أكثر”. سنكون أمام “بطاقة الملاعب” و”بطاقة البرلمان” و”بطاقة الجمعيات” و”بطاقة المجالس الترابية” و”بطاقة الحكومة” و”بطاقة الوزارات” وهلم تخربيقا.
واقع ينقل للوجود التسيب والفوضى الذي أصبح يعيش تحت وزره الإعلام والإعلاميون. وهي خطوة ضربت في العمق حتى اللجنة المؤقتة لتسيير شؤون الصحافة والنشر على اختلافنا معها ونقدنا لها. بل وضربت حتى التمثيليات النقابية. لتعزز بهاته الخطوة ديكتاتورية من نمط جديد يعزز سلطة جمعية “كرطونية” قضمت الأخضر واليابس. ووضعت نفسها وصية على الإعلاميين والصحافيين، في مشهد يعكس صورة الخواء التدبيري والديمقراطية الترقيعية المعتمدة من قبل الوزارة والمؤازرة بجمعية لا تمثل إلا نفسها.
واقعة تحمل إضافة إلى لاشرعيتها. خطورة أن تتحول تلك البطاقة المسماة زورا بطاقة الملاعب إلى أداة لتمكين كل من لا صلة له بالصحافة والإعلام منها. وذلك بقوة القرب أو المال. فيما سيتم حرمان الإعلاميين والصحافيين والمراسلين من الاستفادة منها. أو ستصبح وسيلة من وسائل الإثراء غير المشروع على حساب الديمقراطية وحرية الممارسة الإعلامية.
فالخطوة تحمل قيودا تعرقل حرية الإعلاميين والصحافيين في ممارسة واجبهم المهني بشكل مستقل. ودون تضييق أو خنق أو مصادرة لحق دستوري وطني وكوني. وهي خطوة تثير الشكوك حول صوابية إقرارها وتنزيلها في هاته الفترة المتسمة بالفراغ. فيما يخص التمثيلية القانونية المعتمدة رسميا في قطاعي الصحافة والنشر. مع قتل خطوة المجلس الوطني للصحافة والنشر. على نقدنا لها. وتعويضها بلجنة فاقدة للشرعية وعاجزة عن أداء أبسط المهام. فما بالك التعبير عن مطالب العاملين بقطاعي الصحافة والنشر. وهو ما يضرب مصداقية المهنة ويتيح المجال للتلاعب بمصير المهنة والمهنيين.
واقعة حملت للواجهة تحالفات قائمة بين بعض المهنيين والعصبة والوزارة الوصية والتي أسهمت في تفاقم المشاكل التي تواجه الصحافيين المغاربة. والتي تزداد حدتها يوما بعد يوم. وما بطاقة الملاعب إلا العصارة الطبيعية لهذا الواقع المتسم بالتسيب والفوضى. ومصادرة لحقوق الصحافيين والصحافيات عبر تمثيلياهم الحقة. بل أنها تعتبر إقصاء ممنهجا لحقهم في التقرير والتعبير عن آرائهم فيما يخص وضعهم المهني. ومحاصر لهم عبر منظومة من التخريجات التي تعرقل مسارهم المهني. وتضعهم بالتالي تحت رحمة تلك الجمعية الفاقدة للتمثيلية بما يخدم مصالح شخصية ضيقة.
إن الصحافة المغربية، التي تعد ركيزة أساسية في بناء الوعي المجتمعي وترسيخ فعلي للديمقراطية. تواجه اليوم تحديات كبرى. أهمها تلك التي تأتي من الداخل. حيث أضحت الجمعيات المهنية وسيلة للتحكم في القطاع وتقويض الجهود الرامية إلى إنشاء إعلام حر ومستقل.
قرار الدعم الحكومي للصحافة دعم للمقاولات الكبرى وتعميق فعلي لجراح المقاولات الصغرى
في السياق ذاته، وفي خطوة تحمل في ظاهرها دعماً للنسيج الإعلامي الوطني. وتعزيزاً لدور الصحافة في ترسيخ التعددية وخدمة المصالح العليا للوطن. ولكن في جوهرها تحمل هيمنة لوبيات مسيطرة على المشهد الإعلامي. والتي تتعامل مع الدعم من موقع الحلفين.
حلف القوة الذي يجمع لوبيات مهيمنة سواء من جهة الناشرين أو الصحافة. وحلف الفقراء المقصي من كل شيء والممارس في حقه مزيد من الخنق لفائدة الحلف الاول. وهو ما يضرب في العمق مبدأي الشفافية والديمقراطية في تقسيم الدعم. ويرفع للعلن حالة التسيب والفوضى الذي يعيش تحت أوزاره القطاع.
وهو الأمر الذي فجر عقب صدور القرار الحكومي المشترك لدعم الصحافة جدلاً واسعاً في الأوساط الإعلامية. لأن منطوق القرار الذي ادعى زورا وبهثانا تمكين المقاولات الإعلامية الفتية والمتعثرة. هو في جوهره تعميق للفوارق القائمة وترسيخ لثقافة الحلفين. وانحرف بالتالي عما تم قوله إعلاميا. إذ زكى الفجوة القائمة بين المقاولات “الكبرى” و”الصغرى”. لتتعمق الفجوة اكثر وتصبح أكثر وضوحاً.
فالسمة التي ميزت إصدار القرار وما فجره من موجة استغراب لدى المهنيين والمهتمين. هو غياب الشفافية والعدالة في توزيع هذا الدعم. حيث تحصل المقاولات الإعلامية الغنية على النصيب الأوفر. فيما تُترك المقاولات الصغرى تصارع من أجل البقاء. فيما يشبه سياسة القتل الرحيم في ظل الواقع الاقتصادي والهيكلي المتزايد الذي تعاني منه هاته المقاولات.
وهو ما يكرس سياسة الانحياز ودعم اللوبيات القائمة على كافة المستويات. على الرغم من تملك تلك المقاولات “الكبرى” لإمكانيات تمويلية ضخمة. وهو ما يشكل توقيع شهادة وفاة لهاته المقاولات “الصغرى”. بما يقلل من فرص الفاعلين الصغار في تطوير أدائهم. وخدمة المصلحة العامة والمساهمة بفعالية في البناء الديمقراطي. وأيضا الدفاع عن القضايا الوطنية برؤى جديدة عجز الإعلام المدعوم بسخاء في أداء هاته الرسالة.
ففي الوقت الذي كان من المفترض أن يكون الدعم الحكومي أداة لتحقيق التعددية الإعلامية وضمانة لحرية التعبير. فإن الواقع الحالي يعكس توجهاً نحو تكريس احتكار السوق الإعلامية من طرف لوبيات إعلامية تنال كل شيء. وفي المقابل لا تقدم إلا المهازل والمحتويات الساقطة والعاجزة عن الدفاع عن أي شيء. ولا عن تربية المجتمع على قيم التعددية والشفافية والديمقراطية التي ليست في أصل وجودها. ولا في مدرسة أخلاقها بما أنها هي جزء من تركيبة المادة المدروسة المنتقدة.
إن تكريس هذا الوضع يهدف في الجوهر لقتل التعددية الإعلامية. حيث يتم إقصاء المؤسسات الصغرى التي تلعب دورا تجديديا في المشهد. ووطنيا كبيرا في الدفاع عن القضايا الوطنية والقيم الإنسانية والديمقراطية. بما يعزز تنوع المشهد الإعلامي.
واقع يفرض على الإعلاميين والصحافيين الوطنيين الأقحاح وعي المرحلة وخطورة الاستهداف. بما أنه يعيق تأسيس ثقافة وطنية وإبداع فني راق. وديمقراطية تشاركية فعلية وشفافية مطلوبة. ليكون الإعلام بناء على هاته العناصر أسطرلاب سير عمل أهدافها المنيرة والموصلة لشاطئ المستقبل.
استقلالية الإعلام: ركيزة لترسيخ الديمقراطية وحرية الممارسة الصحافية
تعد استقلالية الإعلام من أهم الأسس التي تقوم عليها الديمقراطية وحرية التعبير. في عصرٍ باتت فيه المعلومات سلاحاً أساسياً في تشكيل الرأي العام. ويلعب الإعلام المستقل دوراً محورياً في تعزيز الشفافية، محاسبة المسؤولين وضمان حق المواطنين في الوصول إلى الحقيقة. غير أن هذا الهدف لا يمكن تحقيقه دون وجود ضمانات فعلية لحماية حرية الصحافة. وضمان استقلاليتها الفعلية بعيداً عن ضغوط السلطات أو المصالح الخاصة أو النفعية التي يمكن أن توجه السياسات الإعلامية والعمومية للدول.
فاستقلالية الإعلام لا تعني فقط التحرر من سيطرة الحكومة أو أصحاب النفوذ. بل تشمل أيضاً حرية الصحافيين في ممارسة عملهم دون خوف من الرقابة أو التضييق. وأيضا تمكين المؤسسات الإعلامية من العمل دون خوف أو مصادرة لحقها في الاستفادة من الدعم العمومي. وذلك على قاعدة الديمقراطية والشفافية. وأيضا نقل الحقيقة كما هي، حتى وإن كانت لا تصب في مصلحة بعض الأطراف أو بعض السلط. وهو ما يستلزم تشريعات أكثر صرامة في حماية هاته الحقوق وحماية للصحافيين أثناء مزاولتهم لمهامهم. وأيضا خلق الفضاء المناسب لهاته الممارسة. بما يوفر مناخاً آمناً لممارسة المهنة بحرية واحترافية.
ولا يمكن الجديث عن هاته الحرية بدون ثقافة مجتمعية تدعم هذه الحرية. وتؤمن بأهمية وجود إعلام قوي ومستقل. وانغراس المجتمع المدني، المؤسسات الإعلامية والجمعيات المهنية في تعزيز قيم الشفافية والمساءلة.
فالمؤسسات الإعلامية والصحافة المستقلة تواجه تحديات كبرى من حيث الموارد المالية. حيث يعتمد العديد من المؤسسات الإعلامية على إعلانات ومصادر تمويل قد تكون مشروطة. وهو ما يؤثر سلباً على مضمون العمل الصحافي. وعلى عمل الصحافيين. ويحول بالتالي الصحيفة أو المؤسسة الإعلامية إلى خادمة لسلطة المال أو لباقي السلط الاقتصادية والسياسية. وهو ما يحد من عطائها المهني ويقلص مستوى أدائها لتصبح منفعلة بالواقع المرضي القائم وليست فاعلة في المشهد الإعلامي.
فالحرية الإعلام والاستقلاليته لا يمكن اعتبارها مسألة تسلية ودعم لجمعيات ميتة تنطلق من موقع البراغماتية لتركيم الرساميل. وذلك على حساب القول الحق والكلمة الحرة الطليقة. بل من منطلق اعتبارها الدعامة الأساسية لأي ديمقراطية ناضجة. وحماية هذه الحرية هي مسؤولية الجميع. وعلى قاعدة تسييد الشفافية في التعاطي مع الصحافة والصحافيين وجعلهم شركاء في إنتاج القرارات. بما يحسسهم بالأمان والنتماء لبيت صحافة وطنية حرة لا خادمة للسلط. وإزالة مقص الرقابة المسلط على المؤسسات الصغرى لفائدة دعم الكبرى. وقتل تلك الضعيفة بما يقوي سلطة اللوبي الإعلامي القائم على حساب الوطن وقضاياه المصيرية. فمن دون إعلام حر، يصعب تحقيق أي تقدم ديمقراطي حقيقي.