الماء في ذاكرة جرسيف الرمزية بين سلطة وادَيْ “مْللو” و”ملوية” ..
عبد السلام انويكًة
عبد السلام انويكًة
تراث كل ما بدأ منذ الأزل، ذلك الذي يكاد يكون بأول مجهول. وتراث أيضا، كل فعلِ بشري وتفاعلٍ في مكان وزمن ما حتى الآن. علما أنه عبر كل فترة من فترات الزمن هناك بقايا وشواهد مادية ولامادية. ومن ثمة تراث بقدر ما يحتويه من هوية وحمولة واحالات، بقدر ما يقتضي من حفظ وحماية ووعي وفعل استثمار فضلا عن دراسة. إغناءً لكل عيشِ وكائن تعايشِ ومشترك وحاضرِ ومستقبل.
ولعله على درجة من الأهمية والإفادة ما يُعقد حول التراث هنا وهناك من لقاءات ودوائر نقاش، لترتيب ما يقتضيه أمر حاضره ومستقبله من حاجة لإنصات وطروحات ومقترح. وقد توجهت عناية عدد من هذه اللقاءات عن مؤسسات وفعل مدني وإعلام وغيره، لمواقع تراثية ضاربة في القدم. ليس فقط من اجل إبراز خصوصيتها وتفرد موارد زمنها، بل أيضا لتثمين وتحديد ما من شأنه جعل تراثها بأثر في كل تنمية محلية عبر ما ينبغي من رؤى رافعة استشرافية.
في هذا الاطار وعلاقة بما تتقاسمه المنطقة الشرقية من زخم تراث واسع متباين الجوانب. نجد ما هي عليه وما تحضنه منطقة جرسيف وحوض ملوية الوسطى، من وعاءَ تفاعلٍ بشري عبر فترات تاريخ المغرب. لِما هناك من حفريات وبصمات أزمنة غابرة وآثر مادي ولامادي لا يزال بحاجة لعمل علمي مؤسس شاف. وذلك إبرازا لمكامنها واستثمارا لرمزيتها.
ولا شك أن عنصر الماء بمنطقة “جرسيف” كان ولا يزال مكوناً بيئياً بجدل كبير، وعنصراً أيضا فاعلاً موجهاً جعل تراثها ومحيطها بخاصيةٍ بيئيةٍ وتفرد موضع. وذلك من خلال ما هناك من مشهد يخص التقاء مجريين مائيين شهيرين فيها. ضمن مورفولوجيا ملفتة للنظر.
وعليه، ما طبع المنطقة عموما من هوية مجالية بكل ما في التعبير من معنى منذ القدم. فكانت بأثر فيما هي عليه من ذخيرة تراث غني متعدد الأوجه والتجليات. علماً أن جرسيف أو “أجرسيف”، ربما هو إسم بجدلِ بنيةِ وعلاقة بطبيعة موقعٍ ونقطة لقاء بين وادين هما “ملوية” و”مللو”.
وإذا كانت منطقة “جرسيف” بمثابة وعاء لإرثٍ انساني واسع يجمع بين شاهدِ عُمران ورمزية زمن. فلا شك أنه بوجدان وتمَثل واعتقاد ورواية وشأن وامتداد في الذاكرة المحلية كأثاث أصيل في شموليته.
ولعل بقدر ما يطبع المنطقة من تراث لامادي يجمع بين نمط عيش وتقاليد وعمارة وتعمير ولباس وغذاء وخبرات واحتفالية وفرجةٍ. تقول اليونسكو إنه كل ممارسة وتصوّر وتعبير ومعارف ومهارات. كذا ما يرتبط بهذا وذاك من نِتاجِ حِرفٍ وثقافة أمكنةٍ وغيرها. وإن ما هو متوارث رمزي من جيل لجيل هو ما يبدعه الانسان فرداً وجماعة من جديد بشكل مستمر ووفق ما ينسجم مع زمن وبيئة ما.
بقدر ما تزخر به هذه المنطقة من تراث مادي هو بمستوى عالٍ من القيمة التاريخية والانسانية. لِما كانت عليه من أدوار وتفاعلات. فضلا عن وقعٍ معبر في زمن البلاد والعباد. ولعل “جرسيف” التي بموقع فسيح متميز واستقرار بشري قديم ارتبط بعنصر الماء ووادَيْ “ملوية” و”مللو” خاصة. عُرف في زمن المغرب الوسيط ب”القصبة” التي اختارها “بنو مرين” مكانا استراتيجياً لتخزين وتأمين موارد عيشهم، قبل أن تتحول هذه “القصبة” الى “دار إمارة” على عهد السلطان “أبي عنان المريني”، أواسط القرن الثامن الهجري.
وكان من تَميُّز المنطقة عموما خلال هذه الفترة من زمن مغرب العصر الوسيط، في علاقة بمياه الوادين معا. انتشار بساتين أشجار مثمرة عدة هنا وهناك من الضفاف لدرجة تذكر المصادر التاريخية أنها كانت تبدو كأنها جنة آدم، لِما يحيط بها من جفاف.
ضمن هذا الغنى والزخم الشاهد الذي يطبع “جرسيف” ومحيطها تراثياً، ارتأينا بمختصر مفيد اطلالة حول ما هو رمزي في علاقة بعنصر الماء. ومن ثمة الحديث عن مكونين مجالين أساسيين هما وادَيْ”ملوية” و”مللو”. علماً أن ما هو رمزي تراثي محلي مُرتبط أساسا بأشرطة مياه تتقاسم المجال وتحكُمه منذ القدم حتى الآن. هو إرث انساني وذاكرة وكيان وهوية حاملة لتميزٍات وثقافة ومعالم حضارة. مع أهمية الاشارة هنا الى أن مساحة هامة من مكونات تراث المنطقة اندثرت مع مرور الزمن. وأن ما تبقى يوجد على ايقاع ضغوط عدة ومتداخلة.
وعليه، ما هناك من حاجة ليس فقط لالتفات وإنقاذ، بل لبحث وتنقيب ودراسة وورش عمل، في أفق ما هو إنماء ونماء رافع.
وغير خاف أن منطقة “جرسيف” لا تزال بغير ما هو شاف من أبحاث تراثية علمية. ومن ثمة من نصوص جامعة أكثر تجاوباً مع ذخيرة وموارد ومكامنِ تراث منطقةٍ واسع. ومن هنا أهمية جهود وفعل وتفاعل الجميع كل من موقعه، من أجل ما هو رافع لحماية تراث المنطقة وتثمينه وجعله بدور لفائدة حاضرٍ ومستقبلٍ معا. فضلاً عما ينبغي من وعي بقيمة إرث حضاري وسبل دمج في النماء المحلي.
ولا شك أن أهل وسَلَف “جرسيف” عبر تلاقح الأجيال وتعاقبها بين وادَيْ “ملوية” و”مللو”، كان بدور في حماية تراث المنطقة. وبخاصة من هذا التراث ما هو رمزي حامل لِما لثقافة عيش وتعايش وتقاليد وقيم حياة. وأيضا تعبير وسبل تدبير بيئة وماء وعلاقات وغيرها. ولولا هذا السلف وحفاظه على ما طبع المنطقة من هوية وتراث مائي، لمَا تعرف عليه الخلَف ولمَا ظل حاضراً حياً عابراً للزمن.
هكذا تعد تجليات وسبل استغلال مياه وادَيْ “ملوية” و”مللو”. فضلا عما هنالك من مياه جارية وضفاف ونُظم حياة وتنظيم مجال عبر سواقي وثقافة تقاسم ومناظر أغراس وغيرها. خصوصية محلية وهوية وشواهد انسانية انسان.
ومن هنا ما ينبغي من تثمين وحماية لتراث المنطقة وتحفه المادية واللامادية، من خلال متحفٍ خاص برؤى أرشيف وأثاث محلي ما. ذلك الذي من شأنه حضن وتجميع وإبراز ما هي عليه المنطقة من هوية بيئة مائية وغنى تراث. فضلا عما ينبغي الاشتغال عليه من أجل لِما لا دليل جامع لمعالم وعلامات تراث المنطقة. وذلك عبر إطار داعم من قبيل مركز بحث في المحلي التراثي، لإثارة ما هو بعلاقة من جهة. إضافة لجمع ما ينبغي من معطيات ووثائق وأرشيف يخص المجال من جهة ثانية. ناهيك عما يمكن أن يسجل من قيمة مضافة رافعة للتنمية المحلية، من خلال ما ينبغي من ترافع في أفق تصنيف ضفاف وادَيْ “ملوية” و”مللو”. وذلك على مستوى مجال “جرسيف” المدينة وجوارها كتراث وطني ولِما لا انساني.
في علاقته بعنصر الماء ومجاريه المائية على الأقل منذ مغرب العصر الوسيط، يبقى تراث “جرسيف” بقدر ما يشكل أحد عناصر هوية المنطقة وتطورها وتفاعلها ضمن أزمنةٍ وطبيعة مكان. بقدر ما يعد ذاكرة جماعية هي نِتاج تلاقح لتجارب عيش وتفاعلات منذ القدم.
ولا شك أن تراث جرسيف “ملوية” و”مللو”، هو وعاء بأصول عدة لِما طبع المنطقة من علاقة وانفتاح على شرق البلاد وغربها. عبر سبل عبور ورحلةٍ وترحالٍ وقوافل تجارة ورعي وثقافةِ مياه.
هكذا هي قصبة “جرسيف” الممتدة في الزمن، إرثا بيئيا أصيلا بحاجة لتثمين وحماية وحسن استثمار. فضلا عن إبراز ما هناك من ذخيرة مكامن وما لا يزال مغمورا منها. وذلك من خلال ما ينبغي من ورش عمل تشاركي يحضره أثر الجميع كل من موقعه. ولعل رهان “جرسيف” وتطلعاته التنموية بناء على أهمية موضعٍ ورمزية بيئية وإنسانية وثقافية لملتقى “مللو” و”ملوية”، ليس حلماً ولا أمراً مستحيلاً، فقط ما ينبغي من رؤية وإرادة وقناعة فضلا عن ذكاء تدبير تراب.
مركز ابن بري للدراسات والأبحاث وحماية التراث