عندما أفكر في واقع الموارد البشرية في المغرب، أشعر أن المسألة تتجاوز مجرد إدارة أفراد داخل مؤسسات، لتدخل في عمق فلسفة التنمية الشاملة، وذلك لكون الإنسان هو الركيزة الأولى والأخيرة لأي مشروع تنموي. فأي إصلاح إداري لا يهتم بالعنصر البشري هو إصلاح محكوم عليه بالفشل قبل أن يبدأ.
الملاحظة الاساسية التي يمكن تسجيلها في أغلب الإدارات المغربية، سواء العمومية أو الخاصة. هي وجود فجوة واضحة بين الرؤية الاستراتيجية لإدارة الموارد البشرية وبين التطبيق العملي. بين الخطاب الرسمي حول الرأسمال البشري وبين الواقع الذي لا زال، في كثير من المواقع. يفتقر إلى أبسط معايير التكوين والتحفيز.
هناك أزمة واضحة على مستوى العقلية، وكأن الموظف أو العامل مجرد أداة من أدوات التنفيذ وليس شريكًا حقيقيًا في الإنتاج وصناعة القرار.
النقطة الأساسية التي يجب الوقوف عندها هي أن التنمية البشرية لا يمكن فهمها كمحو للأمية أو تحسينا لظروف العيش المادية. بل النظر إليها كمشروع ثقافي وتربوي متكامل. أساسه بناء الإنسان من الداخل، “قيمًا، وعيًا، مهارات، انضباطًا وإرادة”.
فلا تنمية بشرية بدون تغيير في العقل الجمعي. ولا نجاعة في الإدارة أو في جودة في الخدمات العمومية في ظل سيادة منطق الزبونية وتهميش الكفاءات وإقصاء أصحاب المبادرات. لا لشيء إلا لأنهم “مزعجون ل….”.
تحتاج الإدارة المغربية لثورة في مفهوم القيادة. لمسؤولين يرون الموظف لا كأرقام في لوائح الأجور. بل كطاقات مبدعة منتجة، وبطبيعة الحال إن توفرت بيئة سليمة محفزة للإبداع والإنتاج لا قاتلة له. مؤطرة لا تمارس الإقصاء. محترم لحضور الإنسان لا محقّرة له.
عندما بدأ الحديث عن الذكاء الاصطناعي، تم النظر إليه كفرصة تاريخية لإحداث تحول جذري في نمط اشتغال الإدارات. معززة لقدرة الإنسان على اتخاذ القرار وعلى فهم الواقع. وأيضا على إدارة الوقت والمعلومة بشكل أدق وأكثر نجاعة. لا مجرد روبوتًا يزيح الإنسان،
والسؤال المطروح: هل الإدارات المغربية مستعدة فعلاً لهذا الانتقال؟. هل عقلية المسؤول الإداري الكلاسيكي قادرة على استيعاب هذه الثورة؟. هل البنية التحتية الرقمية كافية؟. وهل ثقافة البيانات أصلاً موجودة؟.
الواقع المغربي ينقل سيادة الانماط السكولائية في التدبير الإداري. حيث لا زالت عقلية الأوراق والأختام سائدة. ومطالبة المواطن بوثائق موجودة أصلًا في قاعدة بيانات دولة يفترض أنها موحدة. أي العيش في ازدواجية في النظم. بين حديث عن الرقمنة وواقع تقليدي لا يتحرك إلا بالوساطة والاتصال الهاتفي الشخصي.
الذكاء الاصطناعي يمكن أن يلعب أدوارًا مهمة في إدارة الموارد البشرية: في التوظيف، في تقييم الأداء، في التنبؤ باحتياجات التكوين وفي تتبع المسارات المهنية. بل حتى في رصد المشاكل النفسية التي قد تعاني منها فئة من الموظفين. لكن هذا يتطلب أولاً وقبل كل شيء التحرر من عقلية “التحكم البشري المطلق” التي ترى في الذكاء الاصطناعي تهديدًا للموقع الإداري التقليدي.
هناك حاجة ماسة لإعادة صياغة مفهوم القيادة الإدارية في المغرب، أي الانتقال من عقلية “الرئيس الذي المصدر للأوامر” إلى عقلية “القائد الملهم المواكب والمحاور”.
فلا يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون نافعا في ظل بيئة إدارية تُكافؤ الولاء أكثر من الكفاءة. وترى في التحفيز تهديدًا للتراتبية الإدارية.
من هذا المنطلق، فإن ربط التنمية البشرية بالموارد البشرية وبالذكاء الاصطناعي يجب أن يكون ضمن رؤية متكاملة لإصلاح الإدارة المغربية من الجذور. فلا معنى لتكوين الموظف إذا كان سيجد بيئة مصادرة للمبادرة بعد عودته لمقر عمله. ولا جدوى من رقمنة المساطر إن استمرت العقلية في الحنين للكرسي والأوراق وختم المدير. ولا نفع للذكاء الاصطناعي بدون ترسيخ للذكاء البشري كمنطلق: ذكاء الإدارة، ذكاء التسيير وذكاء العلاقات الإنسانية داخل بيئة العمل.
فالتنمية البشرية تبدأ من التعليم، الأسرة، الإعلام، الحي، المسجد. وتحديدا في الإدارة لكونها ليست مرآة للدولة فقط. بل مصنع يومي لتشكيل علاقة المواطن بالوطن. فالموظف المهان سيُهين حتما المواطن. ومكسور، لن يُنتج إلا الانكسار. والمُحتقر سيتحوّل حتما إلى أداة لتعطيل كل ما هو جميل.
المطلوب هو تحول الإدارة المغربي في إطار استراتيجيتها العامة من عقلية التعامل مع الذكاء الاصطناعي كأداة تقنية إلى جعله رافعة ثقافية وتدبيرية. حينها سيتحول وجه الإدارة المغربية مع التخلص من المحسوبية في التوظيف، لأن المنتقي سيكون عبارة عن خوارزميات ذكية مبرمجة على الكفاءة ولا شيء غير ذلك. وبرمجة تقييم أداء عادل لا يتأثر بالمزاج الشخصي للرئيس. كما يمكن في هاته الحالة توجيه التكوين المستمر بطريقة دقيقة وفعالة. والتخطيط للموارد البشرية استباقيًا لا ارتجاليًا. بل يمكن تحقيق التكافؤ بين الجهات في توزيع الكفاءات والوظائف بناءً على معايير علمية وليس توازنات سياسية.
لكن هل الذكاء الاصطناعي قادر على أن يُحدث كل هذا في بيئة بشرية ملوثة بالشك، الخوف من التغيير والحذر المرضي من كل ما هو جديد؟. هنا بيت القصيد. فالإصلاح الحقيقي يبدأ من الإنسان وينتهي إليه. ولهذا فإن التنمية البشرية تظل الأساس، لأنها وحدها القادرة على خلق إنسان منفتح على التحول. قادر على التفاعل مع الآلة، مؤهل فكريًا وأخلاقيًا للقيادة والإبداع.
إذن نحن أمام ثلاثية مترابطة: الإنسان، النظام والتكنولوجيا. فالموارد البشرية هي رأس المال الحي. والتنمية البشرية هي الاستثمار في هذا الرأسمال. والذكاء الاصطناعي هو الحافز الذي يمكن أن ينقل كل هذا إلى مستوى غير مسبوق من الفعالية والجودة والشفافية.
والمغرب، إذا أراد فعلاً أن يبني دولة حديثة، لا بد له أن يُعيد تشكيل إدارته على ضوء هذه الثلاثية. وإلا فإن الحديث عن النموذج التنموي الجديد سيبقى حبراً على ورق، تمامًا كما بقيت من قبله برامج كثيرة جميلة في صياغتها، عقيمة في أثرها.
تجدر الإشارة إلى أنه من المفروض على المؤسسات العامة والخاصة الالتزام بمعايير الأمن السيبراني وحماية البيانات، وفق قوانين مثل GDPR. وذلك لضمان استمرارية الخدمة وحماية حقوق الموظفين والمواطنين معا. خاصة مع تزايد الاعتماد على الحلول الرقمية.
إنّ ربط التنمية البشرية بتنمية الموارد البشرية والذكاء الاصطناعي يتطلب رؤية متكاملة لإصلاح عميق يبدأ بتغيير العقلية. ويستلزم استثمارًا في الإنسان وتطوير بيئة عمل محفزة. مع تبني تكنولوجيا حديثة تضع الإنسان في قلب التقدم، لأنها وحدها القادرة على تحويل الإدارة إلى أداة فاعلة في بناء المغرب الحديث.