#جنيف، سويسرا – تحل الذكرى الثمانون لصدور “ميثاق الأمم المتحدة”. ليقف العالم حول المنجز والوضع العالمي ومدى قدرة هذا المنتظم الدولي على ضمان الأمن والاستقرار والسلم. في وقت أبان فيه العدوان “الإسرائيلي” على “غزة” انهيار منظومة هاته المنظمة وعجزها عن فرض احترام الإرادة الدولية. وهو ما يضعها موضع محاكمة.
تحل هاته الذكرى في ظل تصاعد التوثرات في العلاقات الدولية التي وصلت لحدود قصوى غير مسبوقة من التردي والانهيار والعجز. في مواقع مشتعلة ضمنها الشرق الأوسط، أوكرانيا ومناطق أخرى. فماذا بقي من هيبة هاته الوثيقة الأممية؟ وإلى أي مدى استطاعت الأمم المتحدة أن تحافظ على أساس وجودها، وتساهم بالتالي في ضمان الأمن والاستقرار والسلم؟ وهل لا تزال تحظى بالأهمية والاحترام والقابلية لردع الخروقات تعزيزا للسلام المفقود؟.
ماذا تبقى من هيبة الميثاق المؤسس للأمم المتحدة؟
الوقائع تبرز تعارض النص مع الوقائع الدولية المتسمة بالخرق والهيمنة وانتشار منطق القوة على قوة المنطق.
فميثاق الأمم المتحدة حمل لحظة الولادة في 14 أكتوبر من عام 1945 توقيع خمسون دولة. اجتمعت في مؤتمر “سان فرانسيسكو” عقب الحرب العالمية الثانية. ليدخل حيز التطبيق يوم 24 أكتوبر من نفس الفترة.
نظريا شكل الميثاق أساسا لتنظيم العلاقات الدولية وتسييد القانون الدولي. وذلك من خلال مبادئه التي تقوم على خمسة أعمدة اساسية. مفهوم السيادة للدول، المساواة القانونية بين الأمم وحظر اللجوء لاستخدام القوة إلا في حالة الدفاع عن النفس أو بقرار من مجلس الأمن. إضافة لاحترام حقوق الإنسان والتعاون الدولي.
وقد شكلت هاته المبادئ دستورا دوليا لتنظيم العلاقات بين الامم. ومنهاجا لفض النزاعات وتأسيس قيم السلم بعيدا عن لغة المدافع والقهر والاستعباد والتمييز. وهو ميثاق ملزم تتعهد من خلاله الدول الموقعة بتطبيقه واحترام مقتضياته المؤطرة في 111 مادة، مدرجة في 19 فصلا.
وكان الأمل كبير في نقل العالم من حالة الحرب إلى حالة السلم. ومن التوثرات إلى الاستقرار. ومن الفوضى إلى النظام. ومن منطق خرق الحقوق إلى منطق تسييد الحق والدفاع عن هاته القيم الكونية. ولو اقتضى الامر اللجوء للبند السابع من هذا الميثاق لتحويل النص إلى واقع متحقق. وهو ما مهد الطريق لمجموعة من الخطوات اللاحقة ضمنها صدور “الإعلان العالمي لحقوق الإنسان”، عام 1948. و”الميثاق من أجل المستقبل” عام 2024.
هل مكن الميثاق فعليا من تحقيق أهداف التأسيس؟
نظريا هدف “ميثاق الأمم المتحدة” لتعزيز السلم في العالم. وهو ما لم يتحقق في عالم يتسم بالصراعات والتوثرات والجرائم ضد الإنسانية، كما هو الحال في العدوان على “غزة”. فضلا عن هيمنة الدول الدائمة العضوية، “الصين، الولايات المتحدة، فرنسا، المملكة المتحدة وروسيا” على القرار العالمي. وهو ما جعل الميثاق رهينة تحقيق الأطماع. ملبسا إياه ثياب التعطيل دفاعا عن المصالح. الأمر الذي ادخله غرفة الإنعاش.
وضع وصفه “فنسنت شيتيل”، أستاذ القانون الدولي في “معهد جنيف للدراسات العليا” بحق قائلا: ”في مواجهة استخدام القوّة الأحادي، سواء من قبل روسيا أو الولايات المتحدة أو إسرائيل. تسود رؤية قاتمة بشأن السلام والأمن. وإن تم تسجيل العديد من النجاحات في مجال التعاون التقني، وإن بشكل أقل وضوحا“.
هل نجح الميثاق في تحقيق الأهداف أم فشل في الإيفاء بالمطلوب؟
العدوان على “غزة” والعدوان الأمريكي” على “إيران” والغزو “الروسي” المستمر ل”أوكرانيا” من خارج الأركان الخمسة التي حملها الميثاق. وفشل المنظومة الدولية في التصدي لهاته الانتهاكات. تبرز بما لا يدع مجالا للشك أنه تحول إلى هيكل بلا روح ولا جوهر.
خبراء في القانون الدولي قاربوا المسألة من وجهة نظر التمرحل. مؤكدين أن الخرق لم ينقطع وانه استمر حتى مع لحظة الولادة من قبل الدول العظمى. ضمنها الحرب الكورية، منذ عام 1950. حرب فيتنام وتدخل “الولايات المتحدة” في فصولها في الستينات. الغزو “السوفياتي” ل”أفغانستان” عام 1979. والعدوان على “العراق” من قبل “واشنطن” وحلفائها عام 2003.
الفارق الوحيد الحاصل بين انتهاكات الماضي وانتهاكات الحاضر. هو قوة مواقع التواصل الاجتماعي التي عرت، اليوم، هاته الخروقات للقانون الدولي. بل أن انتهاك هذا القانون أصبح من قبل بعض الدول حقا لا يحتاج لتبرير أمام عجز الأمم المتحدة عن القيام بدورها. ووقوفها موقف المتفرج على هاته الخروقات التي وصلت حد ارتكاب جرائم الإبادة.
والأخطر من ذلك هو أن الدول العظمى أصبحت تمارس الخرق للقانون الدولي بوضوح. حيث لم تعد تحاول حتى إضفاء الشرعية الكونية على هاته الخروقات، كما هو الحال في “غزة” أو العدوان على “إيران”. الأكيد أن العالم تحول لنوع من التحايل على النصوص الأممية. حيث أضحى العدوان دفاعا عن النفس بمقتضى المادة 51 من الميثاق.
فهل يمكن أن نتفق مع تأكيد الأمين العام للأمم المتحدة، “أنطونيو غوتيريش” الحالة القائمة بقوله: “الأساس هو الالتزام بقيم السلام والعدالة، رغم التحديات”. مع الاعتراف بأن حق النقض “الفيتو” أصبح معطلا لتفعيل الميثاق. وذلك لكونه يشل قدرته على اتخاذ قرارات حاسمة. وهو ما يدعو لإصلاحات هيكلية، تشمل توسيع العضوية الدائمة ومراجعة الميثاق بشكل شامل. وذلك وفقا للمواد 108 و109. تعزيزا لفعاليته. في عالم يتسم بالتعقيد والتغير المستمر.
وفي هذا السياق نستحضر صرخة “ونستون تشرشل” التي قال فيها: “السلام لا يعطى، بل ينتزع”. كموجه لاستعادة هيبة الأمم المتحدة وميثاقها المؤكد على أهمية العمل الجماعي لإعادة إحياء روحه المقتولة. وذلك في عالم اليوم المتسم بالحروب والعدوان والإباذة والتجويع والحصار من أجل التركيع.
فمن حق خبراء القانون الدولي أن يتساءلوا في الذكرى الثمانين لتوقيع “ميثاق الأمم المتحدة” عن جدوى هاته الوثيقة التأسيسية للأمم المتحدة. وذلك في ظل تصاعد النزاعات المسلحة وانتهاكات السيادة، من أوكرانيا إلى فلسطين. علما ان تقارير الأمم المتحدة تشير إلى وجود 183 نزاعا مسلحا نشطا حول العالم وهو أعلى رقم يتم تسجيله منذ عام 1945.
الإطلالة الميدانية على روح النص الدستوري الكوني تبرز المفارقات وحالة الاختضار التي يعيشها. فحظر استخدام القوة، وفق المادة 2/4. وسيادة الدول وفق المادة 2/1. وتسوية النزاعات سلميا، وفق المادة 33. وحق الدفاع الشرعي، وفق المادة 51. أصبحت إما في خبر كان أو خاضعة للتأويل لممارسة العدوان والذبح باسم الميثاق. علما أن الأوضاع في غزة سجلت أقوى وأخطر الانتهاكات التي طالت المدنيين والصحافيين والأطقم الطبية والإسعافية والمستشفيات والمؤسسات التربوية. في مشاهد تعكس أن الميثاق أصبح في حاجة لعملية جراحية. لإزالة الورم السرطاني الذي طاله.
وضع عبر عنه الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة، “بان كي مون” قائلا: “لقد أنقذ الميثاق ملايين الأرواح. لكنه يحتاج اليوم إلى دماء جديدة”.
فقد أظهرت التجربة أن هناك فجوة كبرى بين الأسس النظرية التي يقوم عليها الميثاق وبين الممارسة التطبيقية لروحه. فالغزو الروسي لأوكرانيا هو انتهاك صارخ للسيادة، أي لروح المادة 2/4 من الميثاق. والعدوان الإسرائيلي على غزة، عدوان على المواد 33 و2/4 منه. كما أن العدوان “الأمريكي-الإسرائيلي” على إيران، هو تجاوز للدفاع الشرعي، وتعد على روح المادة 51 منه.
الأرقام تشير إلى استخدام حق النقض، (الفيتو)، 293 مرة منذ عام 1945. كما تم تسجيل شلل مجلس الأمن في التصدي لمجموعة من الأزمات.
واقع عبر عنه بصدق الأمين العام السابق للأمم المتحدة، “كوفي عنان” بقوله: إن “الفيتو سلاح الدكتاتوريات ضد الضعفاء”.
وعي بالأزمة الفعلية للميثاق وتأكيد على ضرورة المراجعة
واقع القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة القائم، طرح للواجهة نقاشا حول إصلاح الأخير وآفاق هاته الخطوة التي تشكل معضلة فعلية ترسم مسافة بين الواقع والضرورة. وهو ما دفع العديد من الدول لتقديم مقترحات بتعديل مجموعة من نصوص الميثاق اعتمادا على المادتين 108-109 اللتان تسمحان بذلك. ضمنها توسيع مجلس الأمن، عبر إضافة 6 مقاعد دائمة (إفريقيا، أمريكا اللاتينية، الهند). و”تقييد الفيتو” بمنع استخدامه في جرائم الإبادة. وهي المبادرة التي تقدمت بها “فرنسا” عام 2013. فضلا عن تفعيل دور الجمعية العامة، من خلال تبني قرار “الاتحاد من أجل السلام” لعام 1950.
وفي هذا السياق قال الرئيس الفرنسي، “إيمانويل ماكرون”: “لا يمكن لدول القرن الـ21 أن تحكمها قواعد منتصف القرن الـ20”.
وعلى الرغم من المؤاخدات التي تطال الميثاق وتنزيله بما يخدم الأهداف. يبقى وجوده أساسيا كذرع قانوني حام للدول الصغيرة. كما أن “المحكمة الجنائية الدولية” تستند لمبادئه في ملاحقة مجرمي الحرب. إضافة لنشوء “الإعلان العالمي لحقوق الإنسان” عام 1948 في ظله. فيما يستلهم “ميثاق المستقبل” لعام 2024 الحياة من روحه. وهو ما يؤكد ضرورة الحفاظ على روح الميثاق مع تطويرها بما يخدم الأهداف الكبرى المسطرة. وذلك على الرغم من الانتهاكات المسجلة. وهو ما أكده تقرير “معهد ستوكهولم لأبحاث السلام (SIPRI)” القائل: إن النزاعات المسلحة انخفضت 35% مقارنة بعصر ما قبل الأمم المتحدة. إلا ان إصلاحه يبقى ضرورة وجودية لمواجهة تحدي صعود القطبية المتعددة والتهديدات العابرة للحدود. ضمنها تغير المناخ، الإرهاب السيبراني.
تجدر الإشارة، إلى أن المادتان 108 و109 من ميثاق الأمم المتحدة تسمحان بإدخال تعديلات عليه. لكنها تشترط أن تحظى بتأييد ثلثي أعضاء الجمعية العامة وجميع الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن. كما ان الميثاق خضع للتعديل عدة مرات. ضمنها إضافة أعضاء غير دائمين إلى مجلس الأمن. إضافة لتوسيع عضوية المجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع للأمم المتحدة، من 18 إلى 27 ثم 54 عضوا لاحقا.