#بني ملال، المغرب – في حادثة مؤلمة ذات صلة بحقوق الإنسان، وخاصة الحق في العيش بكرامة والحق في الحياة. توفي ليلة الاثنين الثلاثاء، “بوعبيد”، الأربعيني المعروف بلقب “فلسطين”. وذلك بعد أكثر من 15 يومًا من الاعتصام فوق خزان ماء ب”جماعة أولاد يوسف” ب”إقليم بني ملال”.
وكان “بوعبيد” قد اختار خوض احتجاج للتعبير عن مطالب مشروعة. تتمثل في فتح تحقيق نزيه وشفاف في وفاة والده، الذي توفي في ظروف غامضة بعد إحالته على التقاعد. وما تلا تلك الفترة من لحظات صادمة. قبل أن يختار في النهاية وضع حد لحياته بإلقاء نفسه من أعلى الخزان.
واقعة تبرز سؤالا محوريا ذا صلة بالمواطنة والحقوق المؤكد عليها محليا وكونيا. ضمنها “القانون رقم 09-83” ذا الصلة بحقوق الإنسان. الذي يضمن الحق في الاحتجاج السلمي، والحوار والتواصل بين السلطات والمواطنين. مع ضرورة مراعاة الصحة النفسية للمحتجين. إضافة لتوفير آليات لتحقيق مطالبهم بشكل قانوني وسلمي.
واقعة رفعت إلى الواجهة معاناة أناس من تعقيدات نظم بيروقراطية وفساد في التعاطي مع ملفات ومطالب المواطنين. لأن مطلب “بوعبيد” بسيط لم يكن ليوصل إلى فصول هاته المأساة. وهو ما يستدعي أولا تحديد المسؤوليات واتخاذ ما يلزم قانونا بناء على هذا التحديد. وأهمية القيام بإصلاحات حقوقية واجتماعية لضمان كرامة المواطنين.
منظمات حقوق الإنسان سارعت للمطالبة بفتح تحقيق شامل في ملابسات الحادث. وتحميل المسؤولية لكل من أساء استخدام السلطة. مع ضرورة تعزيز الوعي الحقوقي والتضامن الوطني لمواجهة مثل هذه الكوارث، التي تذكرنا بأهمية احترام حياة الإنسان وحقوقه الأساسية.
مصادر طبية أكدت أن الراحل لفظ أنفاسه الأخيرة داخل قسم العناية المركزة بالمستشفى الجهوي ب”بني ملال”.
لقد كان 30 يونيو شاهدا على تفجر ذراما إنسانية نتيجة التقاعس في التعامل مع مطالب المواطنين. لأنه فجر بداية فصول “خزان الماء” ورفض النزول حتى تحقيق مطلبه في تحقيق نزيه في ظروف وفاة والده المُتقاعد. حيث يتهم السلطات الطبية بالإهمال. لتأخذ المأساة لاحقا منحى ذراميا غير محسوب.
فالدستور المغربي والقوانين الوضعية تضمن له حق الاحتجاج عن الإحساس بوجود خرق. وهو ما اكد عليه “الفصل 29″ من الدستور المغربي، الذي يضمن حرية التعبير والاحتجاج السلمي. إضافة “للقانون 44.19″ لعام 2021. المنظم لحق الاجتماعات العمومية. إلا أنه يستثني الأماكن الخطيرة.
فالإحصائيات حتى الرسمية منها تؤكد واقع المعاناة التي يعيشها المواطنون ما يدفهم للاحتجاج. فحسب تقرير صادر عن “المجلس الاقتصادي والاجتماعي” لعام 2024. فإن 72% من حالات الاحتجاج “غير التقليدية”، كالاعتصام في أماكن مرتفعة، تنتهي بإصابات أو وفيات. فيما يبرز ان 38% من سكان المناطق النائية يفتقرون للوصول لخدمات الصحة النفسية. وأن 54 حالة انتحار مرتبطة بمطالب اجتماعية تم تسجيلها منذ عام 2020.
فالاحتجاج هو تعبير عن اليأس، وهو صرخة مجتمع يجب أن تسمع قبل أن تتحول إلى كارثة. وهنا تحضر مسؤولية الدولة التي تتحول في بعض الحالات إلى متفرجة على فصول المأساة. حينها يقع نوع من الانفصام في العلاقة بين المواطن والمؤسسات. لينمو إحساس بالغربة داخل الوطن. أكيد أن الموت ليس حلا، لكن غياب الحلول يجعل الحبل يعصر كل أركان الكيان، كما في حالة “بوعبيد” ليلفه حول عنقه ويوقع على فصول مأساة. فمأساة “بوعبيد” ليست انتحارا فرديا، بل فشلا تراكميا لمؤسسات تجاهلت صرخة أسرة فقدت معيلها في ظروف غامضة. معززة بغياب آليات استماع فعالة للمحتجين. وموقعة بقطع ممر الثقة الواصل بين المواطن والمؤسسات. فالتعامل مع هاته الحالات كمشكلة أمنية فقط يغذي دوامة العنف. لأن الجروح الاجتماعية لا تخاط بالوضع تحت الحراسات النظرية.
فموت “بوعبيد”، الذي طالب بمطلب بسيط يدعو لفتح تحقيق في وفاة والده وما فجره من فصول دراما انتهت بمآس. يفتح باب سؤال المسؤوليات. فمن المسؤول عن هاته المأساة؟. وما معيار المواطنة التي لا تضمن الحقوق البسيطة؟. ومن يجب ان يحاسب في مثل هاته الحالات؟.
عناصر الوقاية ضحايا و”بوعبيد” ضحية. فمن يتحمل مسؤولية هاته الفصول الصادمة؟. وما موقف الجهات ذات الصلة المطالبة بتسييد القانون على الجميع. احتراما للدستور والقوانين الوطنية والدولية. ام أن المأساة ستسجل كرقم إضافي في سجل الوفيات وانتهى الامر.
فالمأساة فتحت الجراح على حقائق صادمة وأزمة عميقة تعيشها منظومة الحقوق والحريات بالمغرب. حيث طالبت مئات الأصوات بالعدالة والمساءلة، لكن الواقع يشي بأن المسؤولين يكرسون نمطا من التهميش والتجاهل. فهل يعتبر موت “بوعبيد” مؤشرا على فشل الدولة في حماية الحقوق الأساسية للمواطنين. خاصة حق التعبير والحق في العدالة؟ وفقًا للدستور المغربي، الذي يعتبر المرجع الأعلى في البلاد. حيث تنص المادة 20 منه على الحق في الحياة، وضمنها الحق في اللجوء إلى القضاء وحق المواطنة في المطالبة بالحماية.
لكن الواقع يشير إلى تكرار حالات الإهمال والتقصير. حيث يتحول الضحايا إلى أرقام في سجل الوفيات، دون أن يُحاسب أحد على مسؤولياته. عناصر الوقاية المدنية، وقعوا هم ايضا ضحايا لسلسلة من التراكمات السلبية في مؤسسات الدولة. وهو ما يطرح تساؤلات حول مدى احترام المؤسسات لحقوق الإنسان، والتزامها بالمبادئ الدولية لحقوق الإنسان التي أقرتها الأمم المتحدة. خاصة العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية. الذي ينص على ضرورة محاسبة المسؤولين عن الإخلال بحقوق المواطنين.
ف”العدالة ليست فقط حقا للضحايا، بل مسؤولية للدولة”، وفق ما قاله “نيلسون مانديلا”. ومن هنا، فإن الموقف القانوني يتطلب تفعيلا لمبدأ المحاسبة وتطبيقا للقانون بشكل عادل. وفقا لأحكام المادة 23 من الدستور التي تؤكد على أن لا أحد فوق القانون. مع ضرورة تحمل الجهات المختصة مسؤوليتها، واحترام حق المواطن في المطالبة بالعدالة. سواء عبر القضاء أو المؤسسات المختصة.
وفي ظل غياب الشفافية، يصبح السؤال: هل ستتحول مأساة “بوعبيد” إلى فرصة لإعادة النظر في منظومة الحقوق بالمغرب؟، أم ستظل مجرد رقم في سجل الوفيات؟، مشروعا.
مشروعية السؤال نابعة من كون الفصل 22 من الدستور أكد على أن “حق الحياة أول الحقوق… تضمنه الدولة”. كما أن المادة 431 من القانون الجنائي تنص على التجريم القانوني للإهمال الوظيفي المفضي إلى وفاة. فيما المادة 6 من “الاتفاقية الدولية للحقوق المدنية”تؤكد على التزام الدولة بحماية الحياة.
فصول هاته المآسي لا تبقى في الشق النظري المحض بل تعززها الارقام الصادمة التي قدمها “المجلس الوطني لحقوق الإنسان” عام 2025، باعتباره جهة رسمية. فحالات الانتحار الاحتجاجي بلغت 41 حالة منذ عام 2020، نتيجة فشل آليات التظلم. كما ان الملفات الصحية المهملة من شكايات المتقاعدين تصل ل68%، أي ان هناك أزمة متابعة مؤسساتية للشكايات. فيما متوسط زمن التحقيق في وفيات “مشبوهة” يصل ل3.2 سنوات، أي تعطيل المساءلة.
وفي هاته المأساة نجد أن هناك تداخلا في باب المسؤوليات ليبقى السؤال من يجب أن يحاسب؟ مفتوحا ومشروعا. هل المستشفى المعالج للأب الذي لم يوثق سبب الوفاة بدقة، وفقا للمادة 62 من “القانون 131.13″، ذا الصلة بالصحة؟. أم السلطة المحلية، التي تأخرت في التعامل مع الاعتصام والمعتصم ل10 أيام، ضدا على المادة 15 من “القانون التنظيمي للجماعات رقم 111.14؟. ام فرق التدخل وغياب أخصائيين نفسيين، وفق ما تنص عليه مذكرة وزارية صادرة عام 2020 بشأن إدارة الأزمات؟. أم النظام القضائي وما يتسم به من بطئ في النظر في شكاوى الأسرة، وفق دوره المؤطر في المادة 120 من قانون المسطرة المدنية؟. أسئلة تبقى مفتوحة ومعلقة تنتظر فتح دفترها لنربح رهان مغرب الغد الذي يحضن كافة ابنائه. ولكي لا تتكرر هاته المآسي. لأن موت “بوعبيد” ليس انتحارا، بل قتلا بطيئا بيد الإهمال المؤسساتي، كما قال “إدريس اليزمي”، رئيس “المجلس الوطني لحقوق الإنسان” سابقا.
فمأساة “بوعبيد” ليست رقما إضافيا، بل صيحة إنذار بأن المواطنة الحقيقية تقاس بإنصاف الضعفاء. مع ضمان الحق في الحياة باعتباره يتقدم على كافة الحقوق. كما أن غياب المحاسبة سينتج حتما ضحايا جدد. ومن هنا لا يجب التعامل مع القضية كـ”حادث فردي” لأن الأمر حينها سيكون إجهاضا لدور الدولة. لأن الأرض التي لا تنبت عدلاً، تنبت حتما قبورا.