سجلت أحدث معطيات “الحسابات الجهوية” الصادرة عن “المندوبية السامية للتخطيط”، اليوم الثلاثاء. ارتفاعا ملحوظا في تفاوت نفقات الاستهلاك النهائي للأسر المغربية بين الجهات، خلال عام 2023. الأمر الذي يبرز اتساع الفجوة الاقتصادية والتنموية على المستوى الوطني.
وأوضحت “المندوبية” في تحيينها للمعطيات الرقمية أن إجمالي الاستهلاك النهائي للأسر بلغ 891.9 مليار درهما. مع تسجيل نمو مضطرد في حجم التفاوتات بين الجهات. حيث ارتفع متوسط الفارق المطلق بين نفقات الاستهلاك في الجهات والمتوسط الجهوي إلى 48.2 مليار درهم، مقارنة بـ 44.2 مليار درهم عام 2022. مرجعة أسباب هذا الارتفاع إلى “تمركز متنام لنفقات الاستهلاك في الجهات الأكثر دينامية”.
ووفق المعطيات الإحصائية المقدمة. فقد بلغ متوسط نصيب الفرد من الاستهلاك على الصعيد الوطني 24.092 درهما. غير أن هذا المتوسط يخفي تفاوتات صارخة بين الجهات.
اختلالات في الأرقام تعكس وجود اختلالات في توزيع الثروة والدخل
وفي هذا السياق فقد حازت على متوسط نصيب الفرد من الاستهلاك ست جهات فقط. وهي “جهة الداخلة – وادي الذهب” التي نالت على الحصة الكبرى بـ 32.700 درهما. متبوعة ب”جهة الدار البيضاء – سطات” ب29.325 درهما. ف”جهة الشرق” ب26.689 درهما. تليها جهة “طنجة – تطوان – الحسيمة” ب26.245 درهما. ف”جهة الرباط – سلا – القنيطرة” ب25.743 درهما. متبوعة ب”جهة العيون – الساقية الحمراء” ب24.493 درهما.
من ناحية الحجم. سجل التقرير هيمنة واضحة للقطب الاقتصادي الرئيسي. حيث استأثرت “جهة الدار البيضاء-سطات” لوحدها على ربع الاستهلاك الوطني ب(25%). وهو ما يؤكد ريادتها المحورية في الاقتصاد الاستهلاكي. متبوعة ب”جهة الرباط-سلا-القنيطرة” ب(14.6%). ف”جهة طنجة-تطوان-الحسيمة” ب(11.7%). ثم “فاس-مكناس” ب(11.5%). تليها “جهة مراكش-آسفي” ب(11.3%).
وعلى عكس هاته الصورة الوردية بالنسبة لهاته الجهات الست لم تتجاوز مساهمة الجهات الـسبع المتبقية مجتمعة ربع الاستهلاك الوطني، أي (26%). حيث تراوحت نسب مساهمتها بين 0.8% ب”جهة الداخلة-وادي الذهب” و7.2% ب”جهة سوس-ماسة”.
ولا تعكس هاته الأرقام الهوة المسجلة في القدرة الاستهلاكية بين المحورين. بل تعكس بشكل جلي وجود اختلالات كبيرة في توزيع الثروة والدخل. مرتبط اساسا بوتيرة التنمية الاقتصادية بين الجهات. حيث كشفت هاته المعطيات عن وجود اختلالات كبيرة تعكس غياب العدالة في توزيع التنمية والثروة. فاتساع الفجوة الاستهلاكية بين الجهات يعكس تفاوتا عميقا في التنمية الاقتصادية والرفاه الاجتماعي.
تجدر الإشارة إلى أن “المندوبية السامية للتخطيط ” تصدر سنويا “الحسابات الجهوية” التي تقيس من خلالها مؤشرات الاقتصاد الجهوي. بما في ذلك الاستهلاك النهائي للأسر. وهي بيانات تعتبر مصدرا رسميا لقياس التفاوتات المجالية وتوجيه السياسات العمومية.
آثار هاته التفاوتات الاقتصادية والاجتماعية
تعكس المعطيات المقدمة صورة عن واقع جهات المغرب المتسم بتركيز النشاط الاقتصادي وبالتالي النمو في أقطاب محدودة وهو ما يؤكد لحدوث هذا التفاوت الاستهلاكي. إضافة لوجود فجوة تنموية كبيرة واختلالات في توزيع الثروة وبالتالي الخدمات بين الجهات. وهو ما يمثل تحديا كبيرا للسياسات العمومية. فهل ستستطيع “الجهوية المتقدمة” و”النموذج التنموي الجديد” الحد من هاته الاختلالات وتحقيق التوازن المجالي؟ أم أن الأمر سيبقى يدور في فلك الشعارات وبالتالي المزيد من التمركز الذي يخلق بونا شاسعا في توزيع التنمية والثروة وبالتالي الرخاء. وهو ما سينعكس سلبا على الأوضاع الاجتماعية وبالتالي الاستقرار المجتمعي.
تجدر الإشارة أيضا أن الفصل 143 من الدستور المغربي قد نص على “الجهوية المتقدمة” كأسلوب للتدبير بهدف تحقيق التنمية المتوازنة. فيما يهدف “النموذج التنموي الجديد” إلى تقليل التفاوتات المجالية. فضلا عن الاستراتيجيات القطاعية. ضمنها “برنامج تقليص الفوارق المجالية” التابع ل”وزارة الداخلية”.
فالمعطيات المقدمة والفرق الساشع بين الجهات يعكس اختلالات كبيرة. وهو ما يستوجب تعزيز سياسات موجهة لتحقيق العدالة المجالية. لأن الاستهلاك مؤشر على وجود الرفاه الاجتماعي. وبالتالي فاختلاله وتفاوته يعكس تفاوتا هيكليا في التنمية البشرية. وهو الأمر الذي أكد جلالة الملك، حفظه الله. حينما دعا لضرورة التصدي لهاته الاختلالات، حيث قال جلالته: إن “العدالة المجالية أساس متين للتماسك الاجتماعي والتنمية المستدامة”. فيما تعتبر الأمم المتحدة أن التفاوتات المجالية تشكل تهديدا للاستقرار الاجتماعي والاقتصادي.
فبيانات الاستهلاك لا تظهر فقط تفاوتا في الإنفاق. بل تعكس واقعا تنمويا غير متوازن. ومعالجة هذه الفجوة تتطلب سياسات عمومية أكثر جرأة، تستند إلى مبادئ العدالة المجالية والتنمية المتوازنة التي يشدد عليها الدستور والنموذج التنموي الجديد. فهل ستستطيع بلادنا تجاوز هاته الاختلالات وتحطيم هاته الفجوة القائمة لصالح بناء مغرب بكل أبنائه ولجميع أبنائه.
ولا بد من الإشارة في هذا السياق، إلى أن أبرز اختلالات الاستهلاك في المغرب تتمثل في زيادة الاعتماد على قروض الاستهلاك. وهو ما يرفع الديون لدى الأسر ويخلق ضغوطاً مالية محتملة. إضافة لإحداث اضطرابات في سلاسل التوزيع التي تزيد الأسعار وتؤثر على القدرة الشرائية. كما يعاني المغرب من التفاوت في الاستهلاك بين المناطق. حيث تتركز مظاهر الاستهلاك المفرط في المدن الكبرى. فيما تعاني المناطق القروية من الفقر والبطالة. كما تؤثر عوامل أخرى ضمنها ارتفاع الأسعار، الأزمات الاقتصادية والظروف المناخية أيضاً على سلوك المستهلك. مما يدفعه لترشيد الإنفاق أو اللجوء للاقتراض.