الدكتور حسن العاصي / باحث أكاديمي وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمارك
في لحظة تاريخية فارقة، يقف المشروع الوطني الفلسطيني أمام مفترق طرق حاد، تُهدده فيه ليس فقط آلة الاحتلال الإسرائيلي، بل أيضًا بنية سياسية فلسطينية باتت عاجزة عن مواكبة حجم التحديات، ومُقيدة بوظائف إدارية لا ترتقي إلى مستوى التحرر الوطني.
فبينما تتصاعد جرائم الاحتلال في غزة والضفة الغربية، وتُعلن حكومة اليمين الإسرائيلي المتطرف صراحةً رفضها لقيام دولة فلسطينية مستقلة. وتُمعن في ضم الأراضي، وقتل المدنيين، وتهويد القدس، ومصادرة الأرض، وتفكيك الهوية، تظل السلطة الفلسطينية حبيسة “اتفاقات أوسلو”، تُمارس دورًا وظيفيًا محدودًا، وتُعيد إنتاج واقع الاحتلال بدلًا من مواجهته.
لقد تحوّلت السلطة الفلسطينية، التي أُنشئت بوصفها خطوة انتقالية نحو الدولة، إلى كيان إداري هش، يُدار تحت سقف الاحتلال، ويُستخدم أحيانًا لتخفيف الضغط الدولي عن إسرائيل. أو لتبرير تنصلها من مسؤولياتها القانونية كقوة احتلال. هذا التحول لا يُهدد فقط فعالية السلطة، بل يُضعف أيضًا “منظمة التحرير الفلسطينية”، التي كانت وما زالت الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني. ويُربك بالتالي تمثيل الفلسطينيين في المحافل الدولية، ويُشوّه طبيعة الصراع بوصفه صراعًا تحرريًا لا نزاعًا إداريًا.
في ظل هذا الواقع، تبرز الحاجة إلى مراجعة جذرية للمسار السياسي الفلسطيني. تبدأ أولًا بالفصل الواضح بين “السلطة الفلسطينية” و”منظمة التحرير”. بما يُعيد الاعتبار للأخيرة كمظلة وطنية جامعة. ويُنهي بالتالي حالة التداخل التي أضعفت القرار السياسي الفلسطيني وشتّت التمثيل الشعبي. وثانيًا، بالدعوة إلى حل السلطة الفلسطينية طواعية، بوصفها خطوة استراتيجية تُعيد تعريف العلاقة مع الاحتلال. وتضع بالتالي إسرائيل أمام مسؤولياتها القانونية والأخلاقية، وتُجبر المجتمع الدولي على التعامل مع القضية الفلسطينية بوصفها قضية شعب واقع تحت الاحتلال، لا مجرد إدارة ذاتية محدودة الصلاحيات.
إن استمرار السلطة بوظيفتها الحالية، في ظل التغول الإسرائيلي، يُهدد بتفريغ المشروع الوطني من مضمونه، ويُعرض تضحيات الشعب الفلسطيني للضياع. فالمطلوب اليوم ليس تحسين شروط التفاوض، بل إعادة تعريف الصراع، واستعادة البوصلة الوطنية، وتوحيد الشعب الفلسطيني حول هدف واحد: التحرر من الاحتلال وبناء دولة مستقلة ذات سيادة، على كامل التراب الوطني الفلسطيني.
منظمة التحرير والسلطة: فك الاشتباك من أجل فلسطين
بكل وضوح، تُعدّ مسألة الفصل بين السلطة الفلسطينية وهيئات منظمة التحرير الفلسطينية من القضايا الجوهرية التي تستدعي مراجعة سياسية عميقة. ليس فقط من أجل تصحيح المسار الإداري، بل من أجل إنقاذ المشروع الوطني الفلسطيني من التآكل والتشويه. فمنذ تأسيس السلطة الفلسطينية عام 1994 بموجب “اتفاق أوسلو”، حدث تداخل وظيفي وتمثيلي بين مؤسسات السلطة ومنظمة التحرير. وهو ما أدى إلى إرباك في المرجعيات وتضارب في الصلاحيات وتآكل تدريجي في الدور التاريخي للمنظمة كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني في الداخل والشتات.
إن “منظمة التحرير الفلسطينية”، التي تأسست عام 1964، لم تكن مجرد إطار سياسي، بل كانت تجسيدًا لحركة تحرر وطني، حملت راية المقاومة، ومثّلت الفلسطينيين في المحافل الدولية. بل وراكمت شرعية نضالية عبر عقود من التضحيات. أما “السلطة الفلسطينية”، فقد نشأت كجسم إداري انتقالي، يُفترض أن يُمهّد الطريق نحو قيام الدولة الفلسطينية المستقلة. لكن مع تعثر العملية السياسية، وتحوّل السلطة إلى كيان وظيفي محدود الصلاحيات تحت سقف الاحتلال، بات من الضروري إعادة النظر في العلاقة بين الكيانين، خاصة أن السلطة بدأت تُمارس أدوارًا تمثيلية دولية، وتُصادر عمليًا بعض صلاحيات المنظمة. وهو ما أضعف تمثيل الشتات وقلّص من قدرة المنظمة على التحرك السياسي المستقل.
الفصل بين السلطة والمنظمة لا يعني القطيعة، بل يعني إعادة توزيع الأدوار بشكل يُعيد الاعتبار للمنظمة بوصفها المرجعية الوطنية العليا. ويُحرّرها بالتالي من التبعية الإدارية، ويُعيد توجيه بوصلتها نحو أهداف التحرر، لا إدارة الواقع تحت الاحتلال. كما أن هذا الفصل يُتيح إعادة بناء مؤسسات المنظمة على أسس ديمقراطية، تُشرك الفلسطينيين في الشتات وتُعيد تفعيل المجلس الوطني. وذلك بما يعزز شرعية القرار السياسي الفلسطيني.
في ظل التغول الإسرائيلي، ورفض حكومة الاحتلال لأي حل سياسي قائم على دولتين، واستمرار الاستيطان والضم والقتل والاعتقالات، يصبح من العبث استمرار السلطة بوظيفتها الحالية. ويُصبح بالتالي من الضروري أن تستعيد منظمة التحرير دورها الكامل، بعيدًا عن التداخل الإداري. وبعيدًا أيضا عن منطق “السلطة بلا سلطة”. الفصل هنا ليس إجراءً تقنيًا، بل هو خطوة استراتيجية تُعيد الاعتبار للمشروع الوطني، وتُحصّن التمثيل الفلسطيني، وتُعيد توجيه الصراع نحو جوهره الحقيقي: مقاومة الاحتلال، لا التكيف معه.
حين تتحول السلطة إلى عبئ: خيار الحل كفعل مقاومة
في ظل الانسداد السياسي الكامل، والتغول الإسرائيلي المتصاعد على الأرض والإنسان الفلسطيني، تبرز فكرة حل السلطة الفلسطينية طواعية بوصفها خيارًا استراتيجيًا لا يُعبّر عن هزيمة. بل عن إعادة تعريف للصراع، واستعادة للكرامة الوطنية، وتحرير للقرار السياسي الفلسطيني من قيود الوظيفة الإدارية التي فرضها “اتفاق أوسلو”. لقد تحولت السلطة، التي تم إنشاؤها كمرحلة انتقالية نحو الدولة. إلى كيان هش تتم إدارته تحت سقف الاحتلال، بلا سيادة فعلية، ولا قدرة على حماية الأرض أو الإنسان. بل بات في كثير من الأحيان يتم استخدامها كغطاء لتخفيف الضغط الدولي عن “إسرائيل”. أو لتبرير تنصلها من مسؤولياتها القانونية كقوة احتلال.
إن حل السلطة الفلسطينية لا يعني انهيار المؤسسات، بل هو إعلان سياسي يُعيد القضية الفلسطينية إلى مربعها الأصلي: قضية تحرر وطني من احتلال عسكري، لا مجرد إدارة ذاتية محدودة الصلاحيات. هذه الخطوة تُعيد تحميل إسرائيل مسؤولياتها القانونية والأخلاقية بوصفها قوة احتلال. وتُجبر بالتالي المجتمع الدولي على التعامل مع الواقع كما هو، لا كما يُراد له أن يكون. فطالما بقيت السلطة قائمة، فإن “إسرائيل” ستستمر في التنصل من مسؤولياتها، وستُواصل فرض وقائع استيطانية على الأرض، وستُمعن في قتل الفلسطينيين على الحواجز واعتقالهم في الليل وهدم بيوتهم ومصادرة أراضيهم. دون أن تتحمل أي تبعات قانونية أو سياسية.
لقد لوّحت القيادة الفلسطينية بهذا الخيار أكثر من مرة، لكن التلويح لم يتحول إلى قرار فعلي. ومع إعلان اليمين الإسرائيلي رفضه القاطع لقيام دولة فلسطينية مستقلة. وتصريحاته المتكررة حول ضم “الضفة الغربية”، يصبح استمرار السلطة بوظيفتها الحالية نوعًا من التواطؤ غير المقصود. أو على الأقل شكلًا من أشكال التكيف مع الاحتلال بدلًا من مقاومته. إن حل السلطة يُعيد الاعتبار ل”منظمة التحرير الفلسطينية” كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني. ويُحررها بالتالي من التبعية الإدارية، ويُعيد توجيه البوصلة نحو مقاومة الاحتلال، لا إدارة الواقع تحت سلطته.
كما أن هذه الخطوة تُعيد توحيد الشعب الفلسطيني حول هدف واحد: إنهاء الاحتلال واستعادة الحقوق وبناء دولة مستقلة ذات سيادة. وهي دعوة لإعادة بناء المشروع الوطني الفلسطيني على أسس جديدة، تُعيد الاعتبار للتضحيات. وتُعيد توجيه الخطاب السياسي الفلسطيني نحو العالم بلغة التحرر، لا بلغة التنسيق الأمني أو إدارة الأزمات. إن حل السلطة طواعية ليس انسحابًا، بل هو تقدم نحو إعادة تعريف الصراع. وبالتالي تحرير الإرادة السياسية الفلسطينية من قيود الاتفاقات التي لم تُنتج سوى المزيد من الاستيطان والمزيد من الدم.
بين التمثيل والاحتلال: إعادة تعريف العلاقة مع إسرائيل
في حال إعلان السلطة الفلسطينية عن حل نفسها طواعية، سيتم وضع “إسرائيل” مباشرة أمام مسؤولياتها القانونية واللوجستية الكاملة بوصفها قوة احتلال، وفقًا لما تنص عليه اتفاقيات جنيف الرابعة لعام 1949، والقانون الدولي الإنساني. فغياب السلطة يعني أن “إسرائيل” لم تعد تتعامل مع كيان إداري وسيط، بل مع شعب واقع تحت الاحتلال المباشر. وهو ما يُلزمها قانونيًا بتوفير الحماية للسكان المدنيين وضمان وصول الخدمات الأساسية، من صحة وتعليم ومياه وكهرباء. وتأمين حرية التنقل، ومنع العقوبات الجماعية، والامتناع عن التهجير القسري أو الاستيطان في الأراضي المحتلة.
هذا التحول يُعيد تعريف العلاقة بين الطرفين، ويُسقط عن إسرائيل الغطاء السياسي الذي كانت تستتر خلفه لتبرير تنصلها من مسؤولياتها. فطالما بقيت السلطة قائمة، تُمارس وظائف مدنية وأمنية. فإن “إسرائيل” تُقدّم نفسها للعالم بوصفها “شريكًا في عملية سلام”. فيما تُواصل على الأرض سياسات الضم والقتل والاعتقال والاستيطان. أما في حال غياب السلطة، فإن “إسرائيل” ستُصبح أمام المجتمع الدولي دولة احتلال مسؤولة عن كل ما يجري في الأراضي الفلسطينية. وهو ما يُعيد فتح ملفات المساءلة الدولية، ويُعزز من فرص الملاحقة القانونية أمام محكمة الجنايات الدولية، كما حدث في الرأي الاستشاري الصادر عن محكمة العدل الدولية في “لاهاي”، الذي أكد أن “إسرائيل” تُمارس انتهاكات ممنهجة ترقى إلى جرائم حرب.
لوجستيًا، تتحمل إسرائيل مسؤولية إدارة الحياة اليومية للفلسطينيين، وهو ما يُشكّل عبئًا سياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا عليها، ويُجبرها على مواجهة تبعات الاحتلال التي كانت تتجنبها عبر وجود السلطة. كما أن هذا الوضع يُحرج الدول الداعمة ل”إسرائيل”. ويُعيد بالتالي تفعيل أدوات الضغط الدولي، من خلال الأمم المتحدة، ومجلس حقوق الإنسان، والمنظمات الحقوقية، التي تُطالب بوقف الانتهاكات، وفرض عقوبات على المسؤولين عنها، وتفعيل مبدأ الولاية القضائية العالمية لملاحقة مجرمي الحرب الإسرائيليين.
إن وضع “إسرائيل” أمام مسؤولياتها القانونية واللوجستية لا يُعد فقط خطوة قانونية، بل هو فعل مقاومة سياسي يُعيد الاعتبار للقضية الفلسطينية. وهو ما سيُجبر العالم على التعامل معها بوصفها قضية احتلال، لا مجرد نزاع إداري بين سلطتين. الأمر الذي سيُعيد فتح الباب أمام إعادة بناء المشروع الوطني الفلسطيني على أسس تحررية، تُعيد توحيد الشعب الفلسطيني حول هدف واحد: إنهاء الاحتلال، واستعادة الحقوق، وتحقيق العدالة.
خرائط التحرر لا تُرسم تحت سقف الاحتلال
في ضوء ما تقدم، يصبح من الواضح أن استمرار الوضع القائم لم يعد يُمثل خيارًا واقعيًا أو أخلاقيًا للشعب الفلسطيني، الذي دفع أثمانًا باهظة من دمه وكرامته وأرضه في سبيل الحرية والاستقلال. إن التداخل بين السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير، واستمرار السلطة بوظيفتها الإدارية المحدودة تحت سقف الاحتلال، يُهددان بتفريغ المشروع الوطني من مضمونه. ويُعرضان بالتالي التضحيات التاريخية لخطر التبديد والتهميش. وفي ظل إعلان “إسرائيل”، رسميًا وعلى لسان قادتها، رفضها لقيام دولة فلسطينية مستقلة، والمضي قدمًا في ضم الضفة الغربية، وتكريس نظام الفصل العنصري. فإن الرد الفلسطيني لا يمكن أن يكون مجرد إدارة للأزمة، بل يجب أن يكون فعلًا سياسيًا جذريًا يُعيد تعريف الصراع ويُعيد الاعتبار للهوية الوطنية.
إن الفصل بين السلطة ومنظمة التحرير يُعد خطوة ضرورية لإعادة بناء التمثيل السياسي الفلسطيني على أسس نضالية جامعة، تُشرك الداخل والشتات. وتُعيد بالتالي تفعيل مؤسسات المنظمة بوصفها المرجعية الوطنية العليا. أما حل السلطة الفلسطينية طواعية، فهو ليس انسحابًا من المشهد، بل هو إعلان صريح بأن الفلسطينيين يرفضون أن يكونوا شهودًا على تصفية قضيتهم تحت غطاء إداري هش. وهو ما سيُعيد تحميل “إسرائيل” مسؤولياتها القانونية واللوجستية كقوة احتلال، ويُجبر المجتمع الدولي على مواجهة الحقيقة كما هي: شعبٌ واقع تحت الاحتلال، يُطالب بحقه في الحرية والكرامة، لا مجرد تحسين شروط العيش تحت القيد.
إن هذه الخطوات، وإن بدت صعبة أو مكلفة، تُشكّل في جوهرها استعادة للقرار الوطني الفلسطيني، وتحريرًا للإرادة السياسية من قيود التنسيق الأمني، والتمويل المشروط، والوظيفة الإدارية. وهي دعوة لإعادة بناء المشروع الوطني الفلسطيني على أساس التحرر، لا التكيف. وعلى أساس المقاومة، لا التفاوض العبثي. فالشعب الفلسطيني، الذي صمد في وجه الاحتلال لعقود، يستحق قيادة سياسية تُجسّد تطلعاته، وتُعيد الاعتبار لتاريخه، وتُصوغ مستقبله بكرامة وعزم.
من أجل كرامة الدم الفلسطيني: لا بد من قرار جذري
من أجل كرامة الدم الفلسطيني الذي سال على أرصفة المدن، وفي أزقة المخيمات، وعلى الحواجز العسكرية. لا بد من قرار جذري يُعيد الاعتبار لتضحيات شعبٍ لم يتوقف يومًا عن مقاومة الاحتلال. ولم يتراجع عن حلمه بالحرية والكرامة. إن استمرار الوضع القائم، حيث تُدار حياة الفلسطينيين تحت سقف الاحتلال، وتُختزل القضية في إدارة محلية محدودة الصلاحيات. يُشكّل إهانة سياسية وأخلاقية لدماء الشهداء، ولصبر الأسرى، ولصوت المنفيين في الشتات. فالدولة لا يمكن بناؤها على أساس التنسيق الأمني، ولا على صيانة الهوية الوطنية في ظل التبعية الإدارية. فالقرار الجذري المطلوب اليوم ليس تحسين شروط التفاوض، بل كسر المعادلة المختلة التي تُبقي الفلسطينيين أسرى لوظيفة سياسية بلا سيادة. إن حل السلطة، وفصلها عن منظمة التحرير، وإعادة تعريف العلاقة مع الاحتلال. ليست خطوات تقنية، بل هي فعل مقاومة يُعيد توجيه البوصلة نحو التحرر، ويُعلن أن الدم الفلسطيني ليس ورقة تفاوض، بل عنوانًا للكرامة الوطنية التي لا تُساوم.