استشرت، خلال السنوات الأخيرة، معاناة المواطنين المغاربة مع واقع السمسرة والارتفاع الصاروخي في أثمنة الكراء. حيث أصبح مشهد الأسر الباحثة عن مأوى لائق بأسعار ميسرة من أصعب التحديات اليومية المعاشة.
فالكراء كحل مؤقت وبثمن ميسر بالنسبة لذوي الدخل المتوسط والضعيف. تحول إلى “بعبع” مخيف وحلم صعب المنال. لما يشكله الكراء من عبئ ثقيل يرهق ميزانيات الأسر ويهدد استقرارها الاجتماعي.
تفاعل الظاهرة قد تبدو بسيطة. إلا أنها في العمق معقدة، إذ أصبح بعض أصحاب المنازل ينظرون إلى العقار باعتباره مصدر ربح سريع. مسقطين كل بعد إنساني في التعاطي مع المجتمع حاجته.
فسعر مطبخ صغير أو غرفة ضيقة حلق في السماء العالية بأثمنة مبالغ فيها. لا تعكس لا المساحة ولا مستوى العيش. وهو ما يفجر أسئلة مشتعلة عن دور الحكومة كما الجماعات الترابية في ضبط هذا السوق وحماية المجتمع من غول سوق الكراء؟. والأخطر حول تقديم المؤسسات الرقابية استقالتها من حق المجتمع في سكن لائق بأثمنة معقولة. ناقلة إلى الواجهة سؤالا مركزيا ذا صلة بترك المواطن تحت رحمة قانون العرض والطلب فقط؟.
أوروبيا، تخضع العلاقة الكرائية بين المكري والمكتري لضوابط دقيقة. أي أن الزيادة في ثمن الكراء يخضع لضوابط وسقوف محددة لا يمكن تجاوزه. إضافة لشروط واضحة لفسخ العقود. فيما تعمل الحكومات على تقديم دعم مباشر للطبقات الهشة، وذلك بغاية ضمان الحق في سكن كريم.
أما في واقعنا المغربي. فالقوانين غالبا ما تبقى حبرا على ورق. كما أن الرقابة المؤسساتية تبقى غائبة أو ضعيفة. الأمر الذي يترك المواطن عرضة للتلاعبات في مواجهة جشع بعض مالكي العقارات.
الحقيقة التي يجب الإقرار بها هي أن السكن ليس مجرد سلعة. بل حق إنساني أساسي. لذلك، فإن عقلنة ثمن الكراء ليست ترفا، بل ضرورة اجتماعية واقتصادية. وإغفال هاته الحقيقة ستخلق مزيدا من الفوارق الطبقية. وفي المحصلة تزايد حالات الهشاشة وتوسع دائرة الفقر وأيضا السكن غير اللائق.
إن المطلوب سن قوانين صارمة تحدد سقف الكراء وتنظم الزيادات. مع تفعيل أجهزة المراقبة على المستوى المحلي والإقليمي والجهوي والوطني لضمان احترام العقود. إضافة لتشجيع الاستثمار في السكن الاجتماعي ومحاربة المضاربات العقارية باعتبارها جزءا لا يتجاوز من الفساد. مع تقديم دعم حكومي مباشر لشراء شقق اقتصادية بدون تعقيدات مسطرية.
فعلى الحكومة إيقاف هذا النزيف وضمان حق المواطن في سكن كريم وبسعر معقول في مجال أصبح حلبة للمضاربة غير المنضبطة. مع تسجيل حضورها وممارسة دورها الرقابي لضبط السوق وحماية المستأجر.
الكراء أزمة متعددة الأبعاد والضحية المواطن
لم تعد أزمة السكن مقتصرة على البحث عن سكن لائق، بل تحولت إلى معاناة يومية مع أسعار كراء مبالغ فيها. لا تتناسب مع جودة المسكن أو مساحته. فكراء غرفة، “ستوديو”، في أحياء عادية يمكن أن يكلف صاحبه ما يقارب نصف مرتب موظف متوسط الدخل. وهو ما يمثل عبئا ثقيلا يهدد الاستقرار المالي والاجتماعي للأسر ويوسع بالتالي من دائرة الفقر والهشاشة.
أسباب أزمات المواطن مع سعار الكراء
تتعدد أسباب معاناة المواطن مع ثمن الكراء، لكن أهمها يمكن إجماله في انتشار المضاربة العقارية. وذلك بسبب نظرة المالكين للعقار باعتباره مجرد أداة للربح السريع. بعيدا عن بعده الاجتماعي والإنساني. إضافة لضعف العرض. لأن عدم مواكبة وثيرة بناء السكن الاقتصادي والاجتماعي للطلب المتصاعد. خاصة في المراكز الحضرية يؤدي لحدوث اختلال كبير بين العرض والطلب وهو ما يشعل لهيب الأسعار. وما يفاقم المشكلات أكثر هو غياب الآليات الرقابية وفرض احترام القانون.
ممارسات رسمية تعاكس ما هو منتهج في العديد من الدول التي تعمل على تنظم سوق الكراء بشكل صارم. فيما يظل الإطار القانوني المغربي، ذا الصلة. محدودا وغير مفعل في معظمه.
فعلى الرغم من تنظيم المواد من “627 إلى 660 من قانون الالتزامات والعقود” المغربي العلاقة الكرائية إلا أنه يترك الحرية شبه الكاملة لأصحاب العقارات في تحديد الأسعار. فيما ترتكز المبادرات الحكومية بشكل أساسي على برامج “السكن الاجتماعي” للتملك. فيما يظل دعم القطاع التأجير، عبر مبادرات مثل “صندوق ضمان الكراء”، محدود النطاق والتأثير.
إن الوضع القائم يتطلب أولا وقبل كل شيء إرادة سياسية حقيقية. قائمة على اعتبار السكن حقا أساسيا وليس سلعة فحسب. وهو ما يفرض إصدار تشريع جديد وسن قانون تنظيمي يحدد سقوفا لأسعار الكراء ويضبط نسبة الزيادة السنوية. وذلك على غرار تجارب دولية رائدة (كمملكة النرويج أو كندا في بعض مقاطعاتها). مع تفعيل الرقابة المحلية، وذلك من خلال تمكين الجماعات الترابية من أجهزة رقابية لتسعير عقود الكراء والتأكد من مطابقتها للواقع ومنع الغش. فضلا عن تقديم حوافز للعرض. وذلك عبر تشجيع الاستثمار في بناء مساكن مخصصة للكراء بأسعار معقولة من خلال إعفاءات ضريبية ودعم مباشر للمستثمرين. مع تقديم دعم مباشر للأسر وتوسيع نطاق برامج دعم السكن ليشمل مساعدة الأسر الهشة على تحمل أعباء الكراء.
تجدر الإشارة إلى أن “السكن اللائق هو حق أساسي من حقوق الإنسان. وهو أساس الكرامة والمساواة والرفاهية”، وفق ما تنص على ذلك المادة 25 من “الإعلان العالمي لحقوق الإنسان”. فلايمكن بأي حال من الأحوال الحديث عن تنمية حقيقية في غياب سياسة سكنية عادلة تحمي الفئات الأكثر هشاشة من جشع السوق. وفق ما أكده “المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي حول السكن”، في تقرير أصدره.