مخيم اليرموك ذاكرة لا تُغادر… حين كانت الأزقة تحفظ أسماءنا

الدكتور حسن العاصي/باحث أكاديمي وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمارك

الدكتور حسن العاصي/باحث أكاديمي وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمارك

 

في قلب “دمشق”، حيث تختلط رائحة “الزعتر” برماد الحنين. كان “مخيم اليرموك” أكثر من مجرد حيٍّ مكتظٍ باللاجئين. كان وطناً مؤقتاً، لكنه ثابت في وجداننا، كأنّه امتدادٌ لفلسطين التي غابت عن الخرائط ولم تغب عن الأرواح. في “اليرموك”، لم تكن الأزقة مجرد ممرات ضيقة، بل كانت شرايين لذاكرة حيّة، تحفظ أسماءنا كما تحفظ الأم ملامح أبنائها.

لم يكن “مخيم اليرموك” مجرد حيّ جنوبي من مدينة “دمشق”. على العكس من ذلك كان بالنسبة لي العالم كله. حين كنت طفلًا، لم أكن أعرف أنني أعيش في “مخيم”. ولم أكن أفهم معنى أن تكون لاجئًا. كنت أعرف فقط أنني أعيش في مكانٍ يعرفني، ويُناديني باسمي، ويعرف من أنا حتى قبل أن أُعرّف نفسي.

كبرتُ في حارةٍ لا تعرف الإسفلت، لكنها تعرف وقع أقدامنا حين نركض خلف كرةٍ من قماش. وتعرف صوت أمّي وهي تنادي من الشرفة: “ارجع… الغدا صار باردًا”. وتعرف كيف كنا نُقسم أن فلسطين أقرب من المدرسة، وأن العودة ليست حلمًا، بل موعدًا مؤجلًا.

كانت الأزقة ضيقة، نعم. لكنها كانت تتسع لنا جميعًا. تتسع لصوت الكرة وهي ترتطم بالجدار، لصوت أمّي وهي تنادي من الشرفة، لصوت المؤذن الذي لا يُخطئ موعده. وأيضا لضحكاتنا التي كانت تُعلّق على الحيطان كأنها زينة دائمة.

كنا نمرّ في الحارة، فينادي الجدار باسمنا. وتبتسم الحجارة التي شهدت أولى خطواتنا وأسرارنا الصغيرة وضحكاتنا التي كانت تُقاوم الحصار. كل زاوية كانت تعرفنا. تعرف من الذي كان يركض خلف الكرة، ومن الذي كان يكتب الشعر على دفاتر المدرسة، ومن الذي كان يحلم بالعودة إلى “صفد” أو “حيفا” أو “المجدل”.

في “اليرموك”، لم تكن البيوت تُغلق بالمفاتيح. كانت تُغلق بالثقة. وكان الجيران يعرفون بعضهم بعضا كما يعرفون أبناءهم. يعرفون متى نمرض، ومتى نفرح، ومتى نغيب. حين نمرض، يصل الحساء قبل أن نطلبه. وحين ننجح في المدرسة، تُوزّع التهاني كما لو أننا فزنا بكأس العالم. لم يكن هناك ترف، لكن كان هناك كرامة. لم يكن هناك وفرة، لكن كان هناك دفئ. وكان هناك فلسطين، لا بوصفها قضية، بل بوصفها ذاكرة حيّة، تُعلّق على الجدران، وتُروى في الحكايات، وتُغنّى في الأعراس، وتُبكى في صمت الجدّات.

هناك، كانت رائحة الخبز تُوقظنا قبل المدرسة. وكانت أغاني “فيروز” تُذاع من النوافذ، وكانت فلسطين تُعلّق على الجدران، لا في نشرات الأخبار.

كبرتُ في مخيمٍ كان يُعلّمنا أن الوطن ليس خريطة، بل وجه جدّي حين يتنهّد وهو يُحدّثنا عن “صفد”. ويد أبي حين يُمسك بيدي في السوق، وصوت المؤذن الذي لا يُخطئ موعده، حتى حين نخطئ نحن.

كبرتُ في “اليرموك” على إيقاع الحياة البسيطة. على صوت البائع المتجوّل، وعلى رائحة الخبز الطازج. وعلى لهجة شامية ممزوجة بلكنات فلسطينية، تُخبرك أن المخيم ليس مكانًا، بل نسيجًا من الانتماءات.

في “اليرموك”، كانت الحياة تُكتب بالبساطة، وكانت الحارة تُربّي أبناءها، وكانت الجدران تعرف أسرارنا، وكانت المقاهي تُناقش السياسة أكثر من البرلمان. وكانت فلسطين تُقال في كل جملة، حتى حين نتحدث عن الطقس.

ثم غادرتُ… كنت أظن أن العالم كله يشبه “اليرموك”. حين غادرت، لم أشعر أنني أترك حيًّا، بل أنني أُقتلع من جذوري. حملت في حقيبتي صورًا لا تُطبع، وأسماءً لا تُنسى، وحنينًا لا يُترجم، وغصةٌ لا تُشفى، وغبارٌ من زقاقٍ لا يُغسل، وغيمةٌ من رائحة الزعتر، وغناءٌ من صباحاتٍ لا تعود.

في أوروبا، كل شيء مرتب. الشوارع نظيفة، والأنظمة واضحة، والناس لا يتدخلون في شؤون بعضهم. لكن لا أحد يعرفني حين أقول “أنا من اليرموك”. لا أحد يعرف أنني أحمل مدينةً في صدري. وأنني حينما أضحك، أضحك بلهجة فيها قليل من “الشام”، وقليل من الحنين، وكثير من الفقد. لا أحد يعرف أنني حين أُعدّ القهوة، أُصالح بها ذاكرةً متعبة، وأنني حين أُغلق النافذة، أُغلق على صوتٍ كان يأتي من مئذنةٍ في “شارع فلسطين”.

هنا، حين أقول “يمّا”، لا يفهمون أنني أستدعي كل نساء المخيم. وحين أُعدّ القهوة، لا يعرفون أنني أُصالح بها ذاكرةً متعبة. وحين أُغلق النافذة، لا يعرفون أنني أُغلق على صوتٍ كان يأتي من مئذنةٍ في “شارع فلسطين”.

“اليرموك” علّمني أن الوطن ليس خريطة، بل وجه جدّي حين يتنهّد وهو يُحدّثنا عن “صفد”. علّمني أن الانتماء لا يُقاس بالوثائق، بل بالذاكرة. وأن الكرامة لا تُمنح، بل تُصنع في الحارات، وفي المدارس، وفي المساجد، وفي المقاهي التي كانت تُناقش السياسة أكثر من البرلمان. علّمني أن فلسطين ليست مكانًا نعود إليه، بل طريقة نعيش بها، حتى حين نُبعد عنها آلاف الكيلومترات.

حين أُشاهد صور المخيم بعد الحرب، لا أرى الركام فقط. أرى طفولتي وهي تُهدم، وأرى وجوهًا أعرفها وقد غابت. وأسمع أصواتًا كانت تُشكّل يومي وقد صمتت. لكنني لا أبكي. لأن “اليرموك” لا يموت. لأنه يسكنني، في لهجتي، وفي كتابتي، وفي حزني الذي لا يُفسّر، وفي حنيني الذي لا يُشفى.

“اليرموك” ليس ذكرى. إنه وطنٌ صغيرٌ لا يحتاج إلى حدود، لأنه يعيش فينا، في كل لحظة، في كل غربة، في كل محاولة للاندماج، في كل سؤال عن الهوية، وفي كل إجابة لا تُقال. “اليرموك” وطن يسكنني، كلما مرّت نسمةٌ تشبه رائحة الزعتر. أو سمعتُ طفلًا يُنادي “يمّا” بصوتٍ يشبه صوتي القديم. أو رأيتُ وجهًا فيه ملامح من تلك الأيام، حين كنا نُقسم أن العودة قريبة، وأن الحارة تعرفنا أكثر من الدولة.

“اليرموك” لا يُنسى، لأنه لم يكن مكانًا فقط، بل كان طريقةً في الحب، وطريقةً في الحزن، وطريقةً في الحلم، وطريقةً في أن نكون فلسطينيين دون أن نُفسّر ذلك.

العودة إلى اليرموك: حين تصطدم الذاكرة بالواقع

ما يمكن أن نضيّعه في العودة هو الوهم الجميل بأن الأشياء ستبقى كما كانت. أن الحارة ستعرفنا، أن الجدران ستردّ السلام، أن صوت المؤذن سيأتي من نفس المئذنة، وأن رائحة الخبز ستوقظنا كما كانت تفعل. لكن الزمن لا ينتظر أحدًا، والمكان يتغيّر، حتى حين نحفظه في صدورنا كما هو.

قد نضيّع لحظة التماهي بين الداخل والخارج. بين من كنّا، ومن أصبحنا. لأن العودة تُجبرنا على الاعتراف بأننا تغيّرنا. وأن المخيم تغيّر، وأن اللقاء بيننا ليس استعادة، بل تصالح. نضيّع فكرة أن الوطن هو المكان، ونكتشف أنه صار الذاكرة، وأن العودة إليه ليست جغرافية، بل وجدانية.

وقد نضيّع أيضًا القدرة على البكاء. لأن ما نراه قد لا يُبكى عليه فقط، بل يُصمت أمامه. الركام، الغياب، التهجير، الوجوه التي لم تعد، والأبواب التي أُغلقت إلى الأبد. نضيّع اللغة التي كنا نستخدمها لنصف المخيم، ونبحث عن مفردات جديدة لا تُقال إلا في الغربة.

لكننا، في المقابل، نستعيد شيئًا لا يُشترى: نستعيد الحق في الحنين، في الحزن، في الاعتراف بأننا ننتمي إلى مكانٍ لا يُعاد بناؤه بالحجارة، بل بالكتابة، وبالذاكرة. وبالقصائد التي تُقال في الليل حين لا يسمعنا أحد.

لو عدتُ إلى “اليرموك”، فلن أعود كما كنت. سأعود وفي داخلي مدنٌ أخرى، ولهجاتٌ أخرى، وأثقالٌ لا تُرى. سأعود وفي قلبي ذلك الطفل الذي كان يركض في الأزقة الضيقة، يلهو بكرةٍ من قماش، ويضحك حين تناديه أمّه من الشرفة: “ارجع، الغدا صار باردًا”. سأعود وأنا أحمل صورًا لا تُطبع، وأصواتًا لا تُسجّل، وحنينًا لا يُترجم.

لكن العودة ليست استعادة، بل مواجهة. مواجهة بين ما حفظته الذاكرة، وما فعله الزمن. بين ما كان، وما تبقّى. سأمشي في الحارات التي كنت أعرفها بأسمائها، لا بأرقامها. وسأبحث عن الوجوه التي كانت تُشكّل يومي. عن الجيران الذين كانوا يعرفونني من وقع قدمي. عن البقال الذي كان يُعطيني الحلوى دون أن ينتظر ثمنًا. عن المقاهي التي كانت تُناقش فلسطين أكثر مما تُناقش الطقس.

سأبحث عن بيتنا، عن الباب الخشبي الذي كانت جدّتي تُغلقه كل مساء. عن رائحة الخبز التي كانت تُوقظني قبل المدرسة. عن صوت المؤذن الذي كان يُعلن بداية يومٍ جديد، لا فقط وقت الصلاة. لكنني أعرف أنني لن أجد كل ذلك كما كان. لأن الزمن لا يُعيد نفسه، والمكان لا ينتظر أحدًا.

ما يمكن أن أضيّعه في العودة هو الوهم الجميل بأن الأشياء تبقى. بأن الحارة ستعرفني، بأن الجدران ستردّ السلام، بأن “اليرموك” سيحتضنني كما كان يفعل. لكنني تغيّرت، والمخيم تغيّر، واللقاء بيننا لن يكون استعادة، بل تصالح. تصالح مع الغياب، مع الخراب، مع الركام الذي لا يُحكي فقط عن الحرب، بل عن انقطاع الحكاية.

سأمشي في الشوارع التي كانت تُعلّق أحلامنا على الجدران، وسأُصغي إلى الصمت الذي حلّ مكان الضجيج الجميل. سأبحث عن المدرسة التي كنت أظنها بوابة إلى فلسطين. وعن المسجد الذي كان يُعلّمنا أن الوطن يبدأ من القلب. سأبحث عن نفسي، عن ذلك الطفل الذي كان يظن أن العودة قريبة، وأن المخيم هو العالم كله.

لكنني سأجد شيئًا آخر أيضًا. سأجد أن “اليرموك” لا يزال حيًّا، ليس في الحجارة، بل في التفاصيل الصغيرة التي قاومت النسيان. في رائحة الزعتر التي تُفاجئني من نافذةٍ مفتوحة، في لهجة امرأة تُنادي ابنها “يمّا”، في نظرة رجلٍ يُحدّق في الركام وكأنه يُعيد بناء بيته بعينيه. سأجد أن “اليرموك” لا يموت، لأنه يسكننا، في لهجتنا، في كتابتنا، في حزننا الذي لا يُفسّر، وفي حنيننا الذي لا يُشفى.

العودة إلى “اليرموك” ليست رحلة، بل اختبار. اختبار للذاكرة، للهوية، للقدرة على مواجهة ما لم نكن نريد أن نراه. لكنها أيضًا لحظة صدق، لحظة اعتراف بأننا ننتمي إلى مكانٍ لا يُقاس بالجغرافيا، بل بالحب، وبالوجع، وبالقصص التي لا تنتهي.

ولو عدتُ، سأجلس على حجرٍ في زاويةٍ من “شارع الثلاثين”. وسأُغمض عينيّ، وأُصغي إلى ما تبقّى منّي هناك. سأُصغي إلى صوتي القديم، إلى ضحكتي الأولى، إلى وعدٍ لم يتحقق، لكنه لم يُكسر. وسأعرف أنني، مهما ابتعدت، لم أغادر حقًا.

لكنني أعرف، في أعماقي، أن العودة الحقيقية لا تحدث حين تطأ قدماي أرض “اليرموك”، بل حين أُصغي إلى ما تبقّى مني هناك. حين أُعيد ترتيب وجهي في مرآة الذاكرة، وأتقبّل أنني لم أعد ذلك الطفل الذي كان يركض خلف كرةٍ من قماش. ولا ذلك الفتى الذي كان يظن أن فلسطين أقرب من المدرسة. لقد تغيّرت، والمخيم تغيّر، لكن بيننا ما لا يتغيّر: ذلك الخيط الخفي الذي يربط القلب بالمكان، حتى حين يُهدم، حتى حين يُمحى من الخرائط.

“اليرموك”، في النهاية، ليس فقط ما نراه، بل ما نشعر به حين نُغلق أعيننا. هو ذلك الحنين الذي يوقظنا في منتصف الليل. ذلك الحزن الذي لا نعرف له سببًا. ذلك الانتماء الذي لا يحتاج إلى إثبات. هو الوطن الذي لا يُقاس بالمساحة، بل بالذاكرة. هو الجرح الجميل الذي لا نريد له أن يلتئم، لأنه يُذكّرنا بمن كنّا، وبمن لا نزال، رغم كل شيء.

“اليرموك” لم يكن مخيماً، بل كان سرديةً كاملةً عن الهوية. عن التشبث بالحياة رغم الخيبات. عن الحب الذي ينمو في ظلّ الخوف. وعن الذاكرة التي لا تُغادر حتى حين يُغادر الجسد. حين تهجّرنا، لم نأخذ معنا سوى صور الأزقة، وأسماء الجيران، ورائحة الخبز الساخن في الصباح، وصوت أمٍّ تنادي أبناءها من الشرفة.

“اليرموك” هو الحنين الذي لا يُشفى. هو الجرح الذي لا يُراد له أن يندمل، لأنه جرحٌ جميل، يحمل في طياته معنى الانتماء، ومعنى المقاومة، ومعنى أن تكون فلسطينيًا في قلب الشتات، دون أن تفقد البوصلة.

ولو عدتُ، سأعود لا لأستعيد، بل لأُصافح الغياب. وأقول له: أنا لم أنسَ، ولم أُشف، ولم أُغادر حقًا.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.