الدكتور حسن العاصي / باحث أكاديمي وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمارك
أدلى رئيس “الكنيست الإسرائيلي” بتصريح مثير للجدل عقب القصف “الإسرائيلي” الذي استهدف اجتماعًا لقيادات “حركة حماس” في العاصمة القطرية، “الدوحة”.
حيث قال في مقطع فيديو نشره رسميا: إن “هذه رسالة للشرق الأوسط بأسره”. وذلك بعد قيام الطيران الحربي “الإسرائيلي”، خلال أربع وعشرون ساعة. بمهاجمة كل من: “تونس”، “لبنان”، “سورية”، “الضفة الغربية”، “غزة” إضافة إلى “قطر”.
“رسالة للشرق الأوسط بأسره”؟ نعم، وصلت الرسالة، لكنها ليست كما أرادها مرسلها. وهذا المقال هو ردّي عليها، سطرًا بسطر. لم يكن هذا التصريح عابرًا، بل كان كاشفًا. هذا التصريح لم يكن مجرد استفزاز سياسي، بل كان طعنة في ذاكرة كل من يؤمن بعدالة القضية. حين يتحول الخطاب الرسمي إلى تهديد علني موجه لـ”الشرق الأوسط بأسره”، لا يعود الصمت خيارًا. ومن هنا، جاءت الحاجة لكتابة هذا المقال.
هذا المقال ليس مجرد رصد لحدث، بل صرخة في وجه الانحدار. قصف الوفد في قطر ليس نهاية، بل بداية مرحلة جديدة من التصعيد “الإسرائيلي”، حيث لا مكان آمن، ولا وجه فلسطيني محصّن، ولا عاصمة عربية بمنأى عن اختبار الولاء.
فهل نردّ؟ أم نواصل كتابة بيانات الشجب على ورق مبلل بالدم؟.
الحدث والتصريح: من القصف إلى الرسالة
هذا ليس تصريحًا سياسيًا، بل صفعة وقحة في وجه السيادة العربية، وإهانة علنية لكل من ظنّ أن التطبيع سيمنحهم حصانة، أو أن الحياد سيحميهم من نيران الاحتلال. رئيس الكنيست يتحدث وكأن “إسرائيل” أصبحت المرجعية الأمنية للمنطقة، تُعلّم وتُعاقب وتُهين. فيما الأنظمة تكتفي بالانحناء، وتُسارع إلى تبرير الصمت.
رسالة إلى للشرق الأوسط”؟ أي رسالة هذه؟ أن من يستضيف الفلسطينيين يُقصف؟ أن من يرفض الإملاءات يُعاقب؟ أن من لا يطبع يُستهدف؟. هذه ليست رسالة، بل تهديد علني بأن “إسرائيل” ستضرب كل من يخرج عن الصف، وستُعيد رسم حدود الطاعة بالصواريخ لا بالاتفاقيات.
والأخطر من التصريح هو ما يكشفه: أن الاحتلال لم يعد يخشى أحدًا، لا “قطر”، ولا “الجامعة العربية”، ولا حتى المجتمع الدولي. لقد باتت “إسرائيل” تتحدث بلغة الأستاذ المتغطرس، الذي يُملي على المنطقة سلوكها، ويُعاقب من يجرؤ على احتضان القضية الفلسطينية ولو رمزيًا.
هذا التصريح يجب أن يُقرأ كإعلان حرب على ما تبقّى من الكرامة السياسية في “الشرق الأوسط”. فإما أن يُردّ عليه بردٍ يليق بحجم الإهانة، أو أن نُقرّ بأننا نعيش في زمن الاحتلال الممتد، حيث تُقصف العواصم وتُصفّق الأنظمة.
الخطاب الإسرائيلي الجديد: تهديد أم إعلان مرحلة؟
في زمنٍ تُقصف فيه العواصم قبل المخيمات، وتُستهدف الوفود قبل المقاومين، لم تعد “إسرائيل” بحاجة إلى تبرير جرائمها. هي تضرب حيث تشاء، في” غزة”، في “جنين”، في “بيروت”، والآن في قلب الخليج. قصف مقر إقامة وفد “حركة حماس” في “الدوحة” ليس مجرد عملية عسكرية، بل إعلان وقح بأن الاحتلال بات يمدّ يده إلى كل مساحة عربية لا تنحني له بما يكفي. إنها ضربة في خاصرة السيادة، وفي وجه كل من ظن أن الحياد يحمي، أو أن الوساطة تُحصّن.
هذا القصف لا يُقرأ فقط كحدث عسكري. بل كرسالة سياسية متعددة الطبقات، تحمل في طياتها تهديدًا مباشرًا، وإهانة إقليمية، وإعادة رسم لحدود الهيمنة “الإسرائيلية” في المنطقة.
والأنظمة؟ تكتفي بالانحناء. تراقب الحدث كما يُراقب الغريق سطح الماء، دون أن تمد يدًا، دون أن تصرخ، دون أن تجرؤ على الغضب. بيانات باهتة، اجتماعات عاجلة، تصريحات دبلوماسية لا تُسمن ولا تُغني من كرامة. لقد تحوّل الرد العربي إلى طقوس شكلية، تمارس بعد كل جريمة، ثم تطوى كما تُطوى الرايات في نهاية العرض.
“إسرائيل” لا تختبر قدراتها العسكرية، بل تختبر مدى انكسارنا. تضرب في الدوحة لتقول: لا أحد بمنأى، لا عاصمة، لا فصيل، لا فكرة. والأنظمة، التي اعتادت أن تُدين القصف في غزة، وجدت نفسها اليوم أمام امتحان جديد: هل تجرؤ على الدفاع عن سيادتها؟ أم أن الانحناء بات سياسة رسمية، تُمارس تحت شعار “الحكمة” و”الواقعية” و”المصالح العليا”؟.
رصاصة في صدر العروبة: حين يُقصف الوفد وتُصافح اليد
في زمنٍ تتراجع فيه الجغرافيا أمام الغطرسة، وتُمحى السيادة أمام الرغبة الإسرائيلية في التصفية. جاء قصف مقر إقامة وفد “حركة حماس” في “قطر” كرسالة مدوية: لا خطوط حمراء، لا حصانة دبلوماسية، ولا احترام لأي عرف أو قانون. “إسرائيل”، التي اعتادت أن تضرب في “غزة” وتغتال في “بيروت” وتتوغل في “جنين”. قررت اليوم أن تُمدّ يدها إلى قلب الخليج، إلى “الدوحة”، لتقول للعالم: لا أحد بمنأى عن نارنا، ولا أحد خارج مرمى تصفيتنا.
هذا القصف ليس مجرد عملية عسكرية. بل إعلان سياسي فجّ بأن الاحتلال لم يعد يكتفي بإدارة الصراع، بل يسعى إلى تصفية رموزه أينما كانوا. إنه اغتيال رمزي للوساطة، وللحياد، وللأمن الإقليمي. إنه طعنة في وجه كل من ظن أن التطبيع سيمنح المنطقة استقرارًا، أو أن “التهدئة” تعني نهاية المعركة.
لكن الأخطر من القصف هو الصمت. صمت عربي رسمي يُشبه التواطؤ، وصمت دولي يُشبه الرضا، وصمت فلسطيني يُشبه العجز. أين السلطة؟ أين منظمة التحرير؟ أين من يُفترض أنهم يمثلون الشعب الفلسطيني؟ هل تحوّلوا إلى شهود صامتين على اغتيال القضية، أم إلى موظفين في إدارة الأزمة؟.
الاحتلال اليوم لا يدفع كلفة جرائمه، لأنه يواجه خصمًا بلا قرار، وشعبًا بلا حماية، ونظامًا دوليًا بلا ضمير. أما السلطة، فهي تراقب من بعيد، تُصدر بيانات باهتة، وتنتظر أن يُعاد ترتيب المشهد كي تعود إلى دورها الإداري، لا الوطني.
من غزة إلى الدوحة: لا أحد بمنأى عن نيران “إسرائيل”
ما جرى اليوم ليس مجرد قصف، بل إعلان وقح بأن “إسرائيل” لم تعد ترى في العرب سوى خرائط رخوة وحدود بلا معنى. أن تُقصف “الدوحة”، عاصمة دولة ذات سيادة، وفيها وفد سياسي فلسطيني. فذلك يعني أن الاحتلال بات يضرب حيث يشاء، متى يشاء، دون أن يرف له جفن أو يخشى ردًا. إنها ليست ضربة عسكرية، بل صفعة سياسية في وجه كل من توهّم أن التطبيع سيمنح الفلسطينيين هدنة، أو أن الحياد سيحمي أحدًا من نيران الغطرسة الصهيونية.
الاحتلال اليوم لا يكتفي بتدمير البيوت في “غزة”، ولا باغتيال المقاومين في “جنين”، بل يمدّ يده إلى العواصم التي ظنّت نفسها آمنة. يقصف الوفود، يهدد الرموز، ويُرسل رسائل دموية تقول: لا حصانة لأحد، لا احترام لأي سيادة، ولا اعتبار لأي دولة عربية مهما ادّعت الوساطة أو الحياد. “إسرائيل” تتصرف كأنها فوق القانون، فوق الأخلاق، وفوق كل ما تبقّى من كرامة في هذا الشرق المنكوب.
والأكثر فظاعة من القصف هو الرد. أو بالأحرى، غياب الرد. أين الغضب الرسمي؟ أين بيانات الإدانة التي لا تُسمن ولا تُغني من جوع؟ أين السلطة الفلسطينية التي تكتفي بالتصريحات الباردة؟ أين الجامعة العربية التي تحوّلت إلى متحف للبيانات المنسية؟ أين “قطر” نفسها، التي استُهدفت في قلب عاصمتها؟ هل ستكتفي بالصمت الدبلوماسي، أم ستفهم أن الاحتلال لا يفرّق بين “غزة” و”الدوحة”، بين “رام الله” و”الرباط”، بين المقاومة والوسيط؟.
ما حدث اليوم هو اختبار أخلاقي وسياسي لكل من لا يزال يزعم أنه يقف إلى جانب فلسطين. إنه لحظة سقوط مدوٍّ لكل الأقنعة، وانكشاف فاضح لكل من راهن على التهدئة، أو صدّق أن “إسرائيل” يمكن أن تُضبط أو تُردع. لقد قُصفت “الدوحة”، لا لأن فيها سلاحًا، بل لأن فيها صوتًا فلسطينيًا. قُصفت لأنها تجرأت على استقبال وفد لا يُعجب الاحتلال، ولأنها – ولو جزئيًا – لم تدخل بعد في طاعة التطبيع الكامل.
هذه ليست مجرد حادثة، بل نقطة تحوّل. فإما أن يُعاد تعريف العلاقة مع هذا الكيان المجرم، أو أن نُسلّم بأننا نعيش في زمن الاحتلال الممتد، الذي لا يحتاج إلى جنود على الأرض، بل إلى صمت في السماء.
اغتيال في وضح الدبلوماسية
لم يعد الاحتلال “الإسرائيلي” يكتفي باغتيال المقاومين في الأزقة، بل بات يغتال الرموز في الفنادق، ويقصف الوفود في العواصم، ويُرسل صواريخه إلى قلب الدبلوماسية العربية دون أن يرتجف. قصف مقر إقامة وفد “حركة حماس” في “قطر” ليس مجرد خرق، بل اغتيال سياسي في وضح النهار، في وضح السيادة، في وضح الدبلوماسية. إنه إعلان وقح بأن “إسرائيل” لا تعترف بأي حصانة، ولا تحترم أية عاصمة، ولا تهاب أي رد. لقد تجاوزت مرحلة الاحتلال العسكري، ودخلت مرحلة الاحتلال الرمزي، حيث تُصفّي الصوت الفلسطيني أينما وُجد، وتُحاصر الفكرة قبل أن تُولد.
هذا القصف ليس فقط استهدافًا لحماس، بل استهدافًا لفكرة أن يكون للفلسطينيين صوت، ممثل، وفد، أو حتى غرفة فندقية آمنة. إنه اغتيال للدبلوماسية العربية التي باتت تُدار بالبيانات الباردة، وللوساطة التي تحوّلت إلى ديكور سياسي لا يردع ولا يحمي. “إسرائيل” اليوم لا تختبر قدراتها العسكرية، بل تختبر مدى انكسارنا، مدى استعدادنا للبلع، مدى قدرتنا على الصمت. وهي تعرف، للأسف، أن الرد لن يأتي، وأن العواصم العربية ستكتفي بالدهشة، وأن السلطة الفلسطينية ستُصدر بيانًا لا يُقرأ، وأن الجامعة العربية ستُغلق أبوابها في وجه الغضب.
في واضح الدبلوماسية، اغتيلت السيادة، واغتيلت الكرامة، واغتيلت فكرة أن يكون للفلسطينيين مكانٌ يُحترم. فهل نردّ؟ أم نواصل كتابة التاريخ بالحبر الباهت، بينما يُكتب بالدم في “غزة” و”الدوحة”؟.
الرسائل السياسية وراء قصف مقر وفد حماس في قطر
الرسالة الأولى تقول “إسرائيل” عبرها، لا حصانة لأحد، ولا احترام لأي سيادة: فهذا القصف هو إعلان صريح بأن “إسرائيل” لم تعد ترى في العواصم العربية سوى مساحات رخوة يمكن اختراقها متى شاءت. لم يكن الهدف عسكريًا، بل رمزيًا: اغتيال فكرة أن للفلسطينيين حقًا في التمثيل، حتى خارج حدودهم. الرسالة هنا أن لا أحد بمنأى عن التصفيات، لا في “غزة”، ولا في “الدوحة”، ولا في أي مكان يُحتضن فيه الصوت الفلسطيني.
الرسالة الثانية، كسر هيبة قطر كوسيط إقليمي: “قطر”، التي لطالما لعبت دورًا دبلوماسيًا في الملف الفلسطيني، استُهدفت في قلب عاصمتها. الرسالة الإسرائيلية واضحة: لا نعترف بوساطتكم، ولا نحترم دوركم، وسنقصف من تشاؤون أن تستقبلوه. إنها محاولة لكسر هيبة الدوحة، وإجبارها على إعادة حساباتها، وربما دفعها نحو صمت أكثر انسجامًا مع موجة التطبيع.
الرسالة الثالة، اختبار للرد العربي والإسلامي: القصف ليس فقط استهدافًا ل”حماس”، بل اختبارًا للمنظومة العربية بأكملها: هل سترد؟ هل ستدين؟ هل ستتخذ موقفًا؟. “إسرائيل” تراهن على أن الرد سيكون باهتًا، وأن البيانات ستُكتب بلغة دبلوماسية ميتة، وأن الشعوب ستُشغل بالترفيه. بينما تُقصف القضية في وضح النهار.
الرسالة الرابعة داخلية للفلسطينيين، أن لا ملاذ لكم: فالاحتلال يريد أن يقول للفلسطينيين، لا مكان آمن، لا منفى محصّن، لا فندق يُنقذكم من صواريخنا. إنها محاولة لتكريس الشعور بالعزلة، وإضعاف الروح المعنوية، وإرسال إشارة بأن كل من ينتمي للمقاومة هو هدف، حتى لو كان في غرفة فندقية خارج فلسطين.
الرسالة الخامسة تطبيعية، مفادها من يطبّع معنا يُحمى، ومن يخرج عن الصف يُقصف: ففي ظل موجة التطبيع، تريد “إسرائيل” أن تفرض منطقًا جديدًا: الحماية مقابل الولاء، والضرب مقابل التمرد. من يفتح أبوابه للمقاومة يُستهدف، ومن يغلقها يُكافأ. إنها سياسة العصا والجزرة، تُمارس الآن بصواريخ لا تعرف حدودًا.
السيناريوهات المحتملة بعد هذا التصعيد
ما بعد قصف مقر وفد “حماس” في “قطر” لن يكون كما قبله. لقد فتحت “إسرائيل” بابًا جديدًا من الوقاحة السياسية، ووضعت المنطقة أمام اختبار وجودي: إما الرد، أو الانبطاح الكامل.
السيناريو الأول: وهو الأكثر رعبًا، أن تمرّ الضربة كما مرّت سابقاتها: ببيانات شجب، وعبارات “نستنكر بشدة”، ولقاءات عاجلة لا تُفضي إلى شيء. في هذا السيناريو، تُكرّس “إسرائيل” منطقها: أنها تستطيع أن تضرب في أي مكان، دون أن تُحاسب. وأن المقاومة الفلسطينية باتت هدفًا مشروعًا حتى خارج حدود فلسطين.
السيناريو الثاني: أن تُعيد قطر حساباتها، فتُضيّق على الفصائل، وتُراجع دورها كوسيط، تحت ضغط دولي أو تهديدات أمنية. وهذا يعني خسارة مساحة سياسية كانت تُشكّل متنفسًا للفلسطينيين. وتحولًا في خارطة التحالفات الإقليمية، حيث يُكافأ من يصمت، ويُعاقب من يستضيف.
أما السيناريو الثالث: فهو تصعيد فلسطيني داخلي، حيث تُدرك الفصائل أن لا أحد سيحميها. وأن الرد يجب أن يأتي من الداخل، من “غزة”، من “الضفة” ومن الشتات. لكن هذا الرد، إن لم يكن منسقًا، سيُواجه بقمع مزدوج: من الاحتلال، ومن السلطة التي تخشى أن تفقد ما تبقّى من امتيازاتها.
السيناريو الرابع: وهو الأكثر أهمية، أن تُدرك الشعوب العربية أن ما جرى ليس استهدافًا ل”حماس” فقط، بل استهداف لفكرة المقاومة، لفكرة أن يكون للفلسطينيين صوت، ممثل، وفد، أو حتى غرفة فندقية آمنة. وقد يُشعل هذا الحدث موجة غضب شعبية، تُعيد القضية إلى الشارع، وتكسر جدار الصمت الذي بناه التطبيع.
لكن كل هذه السيناريوهات تبقى رهينة بسؤال واحد: هل ما زال في هذا العالم من يجرؤ على الرد؟ أم أن الاحتلال بات يكتب السيناريو وحده، ويُخرج المشهد، ويُصفّق لنفسه. بينما نحن نراقب بصمت، ونُدوّن الهزيمة في دفاترنا؟.
من الاستفزاز إلى الكتابة: لماذا لا يمكن الصمت؟
من الاستفزاز إلى الكتابة: لأننا لا نملك سوى أن نكتب كي لا نُمحى، لأن الصمت صار تواطؤًا. من الاستفزاز إلى الكتابة: حين يصبح الحرف ردًّا على القصف، لأن الكلمات وحدها لا تُقصف. في زمنٍ تُقصف فيه الوفود، وتُحاصر فيه العواصم، وتُغتال فيه الرموز حتى في الفنادق. لم يعد الصمت خيارًا، ولم يعد الحياد موقفًا. “إسرائيل” لا تكتفي باحتلال الأرض، بل تحتل المجال السياسي العربي، وتعيد رسم حدود الخوف، وتختبر كل يوم مدى انكسارنا. قصف مقر وفد “حماس” في “قطر” ليس حادثًا عابرًا، بل إعلانا وقحا بأن لا أحد محصّن، لا دولة، لا فصيل، لا فكرة.
وإذا كانت “إسرائيل” تضرب في قلب الخليج، فذلك لأنها تعرف أن الرد لن يأتي، وأن الغضب العربي بات يُقاس ببيانات باهتة، وأن السلطة الفلسطينية غارقة في إدارة ما تبقّى من وهم السيادة. أما المقاومة، فهي تُطارد في كل مكان، تُحاصر في “غزة”، تُراقب في “الضفة”، وتُقصف في “الدوحة”. فماذا تبقّى من المشروع الوطني؟ وماذا تبقّى من الكرامة؟.
الاحتلال اليوم لا يدفع ثمنًا، لأنه يواجه خصمًا بلا قرار، ونظامًا عربيًا بلا إرادة، ومجتمعًا دوليًا بلا ضمير. لكن الشعوب لا تموت، والذاكرة لا تُقصف، والحق لا يُنسى. وإذا كان هذا الزمن زمن الانكسار، فليكن المقال هذا طلقة في وجهه، وصرخة في قلبه، ورفضًا لا يُساوم.
فلسطين لا تُقصف فقط، بل تُباع على مراحل. لكننا نكتب، ونفضح، ونُشهّر، لأن الكلمة حين تُقال بصدق، تصبح أقوى من الرصاصة، وأبقى من البيان.
المصالح العربية: لا وزن ولا اعتبار
بقي شيء أخير لا بد من قوله: في كل مرة تُختبر فيها العلاقة بين “الولايات المتحدة” وحلفائها العرب، يتضح أن هذه “التحالفات” ليست سوى أوراق مؤقتة تُرمى عند أول منعطف يخدم مصالح إسرائيل أو اليمين الصهيوني الأميركي. فمهما ادّعت واشنطن من التزامات أمنية أو شراكات استراتيجية. فإنها لا تتردد في بيع حلفائها بثمن بخس إذا تعارض وجودهم أو أمنهم مع أولويات “تل أبيب”. القصف “الإسرائيلي” في قلب الخليج، والصمت الأميركي المريب، ليسا استثناءً بل تأكيدًا على قاعدة قديمة: الحليف العربي لا يُعامل كندّ، بل كأداة قابلة للاستبدال. في هذا المشهد، تتعرّى الأنظمة التي راهنت على الحماية الأميركية، وتُترك لتواجه الإهانة وحدها. فيما تُمنح “إسرائيل” حق الضرب والتهديد والتوسع بلا مساءلة. هذه ليست سياسة ازدواجية فحسب، بل هندسة كاملة لخرائط الولاء، حيث لا مكان للكرامة خارج حدود الإجماع الصهيوني.