بين الحياد والانحياز في التصويت الأممي على قرار قيام دولة فلسطين أية دلالات

الدكتور حسن العاصي / باحث أكاديمي وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمارك

الدكتور حسن العاصي / باحث أكاديمي وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمارك

 

في لحظة تاريخية تتقاطع فيها الجغرافيا مع الذاكرة، والسياسة مع الأخلاق. صوّتت “الجمعية العامة للأمم المتحدة” على قرار يدعم إقامة دولة فلسطينية ضمن إطار حل الدولتين.

وبينما أيّدت الأغلبية الساحقة من دول العالم هذا القرار. برزت مجموعة من الدول التي اختارت الامتناع أو التحفظ، في موقف لا يمكن قراءته بوصفه حياداً بريئاً، بل كتموضع سياسي يعكس توازنات دقيقة، ومصالح متشابكة. وأحياناً صمتاً مريباً أمام قضية عادلة عمرها أكثر من قرن.

إن امتناع هذه الدول لا يُفهم فقط من زاوية التصويت التقني. بل يجب تفكيكه كخطاب دبلوماسي يحمل في طياته دلالات عميقة حول موقع القضية الفلسطينية في الضمير العالمي. وحول حدود التضامن الدولي حين يتعلق الأمر بشعبٍ يعيش تحت الاحتلال، ويكافح من أجل حقه في تقرير المصير.

فهل الامتناع عن التصويت تعبير عن الحذر السياسي؟. أم هو انعكاس لانحيازات ضمنية؟. أم أنه محاولة للهروب من مواجهة الأسئلة الأخلاقية التي تفرضها فلسطين على العالم؟.

في هذا السياق، لا بد من مساءلة هذا “التحفظ الدولي” بوصفه ظاهرة سياسية وثقافية، تتجاوز لحظة التصويت. لتكشف عن خرائط النفوذ، وأشكال التواطؤ الصامت، ومآلات الخطاب الليبرالي حين يُختبر أمام قضية استعمارية مستمرة. ففلسطين، كما كتب محمود درويش، ليست قضية فقط، بل اختبار للضمير، ومرآة للعالم.

هذا المقال لا يكتفي بسرد أسماء الدول الممتنعة. بل يسعى إلى تفكيك دوافعها، وتحليل خلفياتها، وقراءة مواقفها في ضوء التحولات الجيوسياسية، والاصطفافات الجديدة، والرهانات الأخلاقية التي تفرضها القضية الفلسطينية على النظام الدولي المعاصر.

دول الرفض الصريح: قراءة في معسكر الإنكار السياسي لفلسطين

بلغ عدد الدول التي رفضت قرار “الجمعية العامة للأمم المتحدة” بشأن إقامة دولة فلسطينية 10 دول فقط. وهي التي صوتت ضد “إعلان نيويورك” الذي يدعم حل الدولتين ويعترف بحق الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة.

هاته الدول تمثل خليطاً من القوى الكبرى، والدول الصغيرة المرتبطة بتحالفات استراتيجية أو اقتصادية مع “الولايات المتحدة” أو “إسرائيل”. حيث أن بعضها يعرف بمواقفه الثابتة ضد الاعتراف بالدولة الفلسطينية. والبعض الآخر يتبع سياسات خارجية متأثرة بالمساعدات أو النفوذ الجيوسياسي. وهي “الولايات المتحدة”،  “إسرائيل”، “الأرجنتين”، “المجر”، “باراغواي”، “ناورو”، “ميكرونيسيا”، “بالاو”، “بابوا غينيا الجديدة” و”تونغا”.

“إسرائيل” رفضت القرار بشدة، واعتبرته “مخزياً” ويشجع على استمرار الحرب. الحكومة “الإسرائيلية” الحالية، بقيادة تيارات دينية وقومية متطرفة، تسعى إلى ضمّ الضفة الغربية رسمياً. وتعتبر الاعتراف الدولي بدولة فلسطين تهديداً مباشراً لمشروعها الاستيطاني. والخطاب “الإسرائيلي” يرفض أي تسوية سياسية خارج شروطها الأمنية.

الرفض الأميركي ليس مفاجئاً، بل هو امتداد لموقف تاريخي داعم ل”إسرائيل” في المحافل الدولية. الإدارة الحالية تعتبر الاعتراف بالدولة الفلسطينية “تشجيعاً لحماس” و”تقويضاً للسلام”. هذا الموقف يعكس تحالفاً استراتيجياً عميقاً، وتوظيفاً سياسياً للقضية الفلسطينية في الداخل الأميركي. حيث يُستخدم الدعم ل”إسرائيل” كورقة انتخابية ودبلوماسية.

موقف “الأرجنتين” يعكس تحوّلاً في سياستها الخارجية بعد صعود حكومة يمينية محافظة. رغم تاريخها في دعم حقوق الإنسان، فإنها تبنت خطاباً متحفظاً تجاه القضية الفلسطينية. ربما نتيجة تقاربها مع “واشنطن” أو رغبة في تجنب التوترات مع “إسرائيل”، التي تربطها بها علاقات اقتصادية وأمنية متزايدة.

“المجر” بقيادة حكومة “أوربان” تتبنى سياسات قومية محافظة معروفة بدعمها القوي ل”إسرائيل” في “الاتحاد الأوروبي”. وبالتالي فرفضها للقرار يأتي في سياق تحالف أيديولوجي مع “تل أبيب”، خاصة في قضايا الأمن والهجرة، وتعبير عن موقف معادٍ للمؤسسات الدولية التي تنتقد “إسرائيل”.

أما بالنسبة ل”باراغواي” فهي من الدول التي نقلت سفارتها إلى القدس سابقاً. ما يعكس انحيازاً واضحاً ل”إسرائيل”. وبالتالي فموقفها الرافض ينبع من علاقات دبلوماسية وثيقة، ومن رغبة في تعزيزها.

أما “الناورو” فهي دولة صغيرة في المحيط الهادئ، غالباً ما تصوت وفقاً للمساعدات التي تتلقاها من دول كبرى مثل “الولايات المتحدة” أو “أستراليا”. وبالتالي فرفضها للقرار لا يعكس موقفاً مستقلاً، بل تبعية دبلوماسية واضحة. فهي تستخدم التصويتات الحساسة كأداة دعم للتحالفات الغربية.

وترتبط “ميكرونيسيا” مثل “ناورو” باتفاقيات دفاع ومساعدات مع “الولايات المتحدة”. وبالتالي فهي معروفة بتصويتها المتكرر ضد القرارات المؤيدة لفلسطين. يبرز تبعيتها السياسية أكثر من كونه موقف مبدئي.

وفيما يتعلق بـ”بالاو” فهي دولة صغيرة أخرى في “المحيط الهادئ”، تتبع نفس النمط. تصويت متكرر لصالح “إسرائيل”، مدفوع بتحالفات مالية وأمنية مع “واشنطن”. فهي لا تمتلك موقفاً مستقلاً في السياسة الخارجية، بل تُستخدم كورقة دعم رمزية.

أما “بابوا غينيا الجديدة” فعلى الرغم من أنها ليست من الدول المؤثرة. فإن موقفها الرافض يعكس تقارباً متزايداً مع “الولايات المتحدة” و”أستراليا”، خاصة في ملفات الأمن البحري. وبالتالي فتصويتها ضد القرار قد يكون نتيجة ضغوط دبلوماسية أو وعود بمساعدات.

و”دولة تونغا”، مثل باقي دول المحيط الهادئ، تتبع نمط التصويت المرتبط بالمساعدات والتحالفات الغربية. لا توجد تصريحات رسمية واضحة، لكن رفضها للقرار تتم قراءته كجزء من كثلة تصويتية صغيرة تدعم الموقف “الأميركي الإسرائيلي” دون تبرير سياسي مستقل.

الامتناع كأداة استعمارية ناعمة: الحياد المسموم

رغم التصويت الساحق في الجمعية العامة للأمم المتحدة لصالح إقامة دولة فلسطينية. حيث أيّدت القرار 142 دولة، فإن امتناع وتحفظ بعض الدول يطرح أسئلة جوهرية حول طبيعة التحالفات، وموازين القوى، ومفهوم الحياد في القضايا الأخلاقية والإنسانية.

هذا المقال يحاول تفكيك دوافع تلك المواقف، ويقرأها في ضوء السياق الدولي الراهن.

من الدول التي اتخدت موقف الامتناع عن التصويت على القرار نجد: “ألبانيا”، “الكاميرون”، “جمهورية التشيك”، “الكونغو الديمقراطية”، “الإكوادور”، “إثيوبيا”، “فيجي”، “غواتيمالا”، “مقدونيا الشمالية”، “مولدوفا”، “ساموا” و”جنوب السودان”.

بالنسبة ل”ألبانيا” فهي تميل للتماهي مع السياسات الغربية، خاصة “الاتحاد الأوروبي” و”الولايات المتحدة”. وبالتالي فامتناعها يعكس رغبة في عدم الاصطدام مع “واشنطن”، رغم أن الرأي العام الألباني غالباً ما يتعاطف مع القضية الفلسطينية. فالموقف هنا هو محاولة للتموضع بين التضامن الإسلامي والتبعية الأوروبية.

“الكاميرون” دولة إفريقية ذات علاقات أمنية واقتصادية مع “فرنسا” و”الولايات المتحدة”. وبالتالي فامتناعها يعكس الحذر من اتخاذ موقف قد يُفسر بكونه معادٍ ل”إسرائيل”، خاصة في ظل التوترات الداخلية التي تجعلها تتجنب الانخراط في ملفات خارجية حساسة.

أما “جمهورية التشيك”، فهي من أكثر الدول الأوروبية دعماً ل”إسرائيل”. وغالباً ما تتخذ مواقف متشددة ضد القرارات المؤيدة لفلسطين. وبالتالي فامتناعها ها هنا هو تراجع طفيف عن الرفض. لكنه لا يعكس تحولاً حقيقياً في سياستها الخارجية، بل محاولة لتخفيف حدة الانحياز.

تعاني “الكونغو الديمقراطية” من نزاعات داخلية، وغالباً ما تتخذ مواقف مترددة في القضايا الدولية. وبالتالي فامتناعها يعكس غياب الإرادة السياسية المستقلة، وتبعية دبلوماسية للجهات المانحة، خاصة “الولايات المتحدة”.

أما “الإكوادور” وعلى الرغم من تاريخها الداعم لقضايا التحرر. فإن الحكومات الأخيرة اتجهت نحو الحذر في الملفات الدولية. وبالتالي فامتناعها قد يكون نتيجة ضغوط دبلوماسية أو محاولة للحفاظ على علاقات متوازنة مع “واشنطنط و”تل أبيب”.

وتمتلك “إثيوبيا” علاقات أمنية قوية مع “إسرائيل”، خاصة في مجالات التكنولوجيا والمياه. وبالتالي فامتناعها يعكس هذا التقارب. إضافة إلى رغبتها في تجنب التورط في ملفات “الشرق الأوسط”، وهي نفسها تعاني من أزمات داخلية.

أما “فيجي” فهي دولة صغيرة في المحيط الهادئ، غالباً ما تصوت وفقاً للمساعدات التي تتلقاها من “أستراليا” أو “الولايات المتحدة”. امتناعها لا يعكس موقفاً مبدئياً، بل تبعية دبلوماسية واضحة.

و”غواتيمالا” كانت من أوائل الدول التي نقلت سفارتها إلى “القدس”. وهو ما يعكس انحيازاً واضحاً ل”إسرائيل”. وبالتالي فامتناعها هنا هو تراجع رمزي عن الرفض، لكنه لا يُفسر كموقف داعم لفلسطين، بل كحساب دبلوماسي داخلي.

“مقدونيا الشمالية”، من جهنها تحاول الحفاظ على التوازن بين الانضمام “للاتحاد الأوروبي” والحفاظ على علاقات جيدة مع “الولايات المتحدة”. وبالتالي فامتناعها يعكس هذا التردد، خاصة في ظل غياب سياسة خارجية مستقلة في الملفات الحساسة.

أما “مولدوفا” فهي دولة صغيرة ذات علاقات متوترة مع “روسيا”، تميل إلى التماهي مع السياسات الغربية. وبالتالي فامتناعها يعكس الحذر من اتخاذ موقف قد يُفسر كمعادٍ ل”إسرائيل”، رغم عدم وجود مصالح مباشرة.

“ساموا” مثل “فيجي”، تتبع نمط التصويت المرتبط بالمساعدات والتحالفات الغربية. لا تمتلك موقفاً مستقلاً، وامتناعها هو انعكاس لتبعية دبلوماسية أكثر منه موقف سياسي.

“جنوب السودان” دولة حديثة العهد، تعتمد بشكل كبير على الدعم الأميركي. وبالتالي فامتناعها يعكس رغبة في عدم الاصطدام مع “واشنطن”، خاصة أن موقفها من القضايا الدولية غالباً ما يكون صامتاً أو متردداً.

إن الامتناع عن التصويت في قضية فلسطين لا يُقرأ كحياد، بل كاختبار أخلاقي فشلت فيه هذه الدول. بعضها اختار التردد خوفًا من فقدان الدعم. وبعضها الآخر اختار الصمت تجنبًا للمواجهة. لكن النتيجة واحدة: غياب الشجاعة السياسية في لحظة كانت تستدعي الوضوح.

ولهذا الامتناع دلالات أهمها: غياب الإرادة السياسية المستقلة في بعض الدول الصغيرة أو التابعة اقتصادياً. والخوف من التصادم مع القوى الكبرى مثل “الولايات المتحدة” أو “إسرائيل”. ومحاولة الحفاظ على الحياد الدبلوماسي في ملف شديد الحساسية. وكذلك ضعف الوعي التاريخي بالقضية الفلسطينية في بعض الدول غير العربية.

لا شك أن الامتناع عن التصويت في قضية تتعلق بحق تقرير المصير لشعب تحت الاحتلال لا يمكن قراءته كحياد بريء. إنه موقف سياسي يحمل في طياته تواطؤاً ضمنياً، أو على الأقل تجاهلًا للعدالة التاريخية. وفي زمن تتسارع فيه التحولات، يبقى الموقف الأخلاقي هو ما يُخلّد في الذاكرة، لا الحسابات المؤقتة.

بين الرفض والامتناع… خرائط الصمت في وجه العدالة

في لحظة كان يُفترض أن تكون فاصلة في تاريخ العدالة الدولية. اختارت عشر دول أن ترفض الاعتراف بحق الفلسطينيين في إقامة دولتهم. فيما آثرت اثنتا عشر دولة أن تلوذ بالصمت، متخفية خلف الامتناع، وكأن الحياد في وجه الاحتلال ليس انحيازاً، بل تواطؤاً مقنّعاً.

بين الرفض الصريح والامتناع المتردد، تتشكل خرائط جديدة للصمت، تُعيد رسم ملامح النظام الدولي. لا بوصفه ساحةً للحقوق، بل كفضاءٍ للمصالح، والموازنات، والرهانات الأخلاقية المؤجلة.

الرافضون، وإن تنوعت خلفياتهم، يجتمعون في خطاب أمني يختزل فلسطين في معادلة تهديد. ويُفرغها بالتالي من بعدها التاريخي والإنساني. أما الممتنعون، فهم أولئك الذين اختاروا أن لا يختاروا. أن ينسحبوا من لحظة الحقيقة. وأن يتركوا القضية معلّقة بين التصريح والتجاهل. كلا الموقفين، وإن بدا أحدهما أكثر حدّة، يشتركان في نفي الاعتراف. وفي إعادة إنتاج استعمار رمزي يُقصي الفلسطيني من مشهد الشرعية الدولية.

لكن فلسطين، كما علّمنا التاريخ، لا تُقاس بعدد الأصوات، بل بعمق الجرح، وبقوة السرد، وبقدرة شعبها على تحويل النفي إلى حضور. إن هذا التصويت، بما حمله من دعم واسع ورفض محدود، يكشف ليس فقط عن مواقف الدول، بل عن مواقف الضمير العالمي، وعن حدود اللغة الدبلوماسية حين تُختبر أمام مأساة مستمرة منذ أكثر من سبعة عقود.

في النهاية، لا يُكتب التاريخ بمن امتنعوا عن التصويت، ولا بمن رفضوا الاعتراف. بل بمن قاوموا النسيان، وكتبوا أسماءهم في الهامش، حيث تبدأ الحكاية الحقيقية. ونحن إذ نرصد هذه اللحظة، لا نسعى إلى توثيقها فقط، بل إلى مساءلتها، وتفكيك بنيتها، وإعادة تشكيلها بوصفها مرآةً للعالم، لا مجرد قرارٍ أممي عابر.

بقي أن نقول إنه في اجتماع “الجمعية العامة للأمم المتحدة”، الذي انعقد يوم الجمعة 12 سبتمبر/أيلول 2025، بشأن اعتماد “إعلان نيويورك” لدعم إقامة دولة فلسطينية. فقد شاركت 164 دولة في التصويت، حيث أيّدت القرار 142 دولة، ورفضته 10 دول، وامتنعت عن التصويت 12 دولة. وبالتالي، فإن عدد الدول التي غابت عن الاجتماع أو لم تشارك في التصويت بلغ 29 دولة وهي الدول الأعضاء التي لم تُسجّل حضوراً رسمياً أو لم تُدلِ بصوتها خلال الجلسة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.