إن الظاهرة الاجتماعية في علم الاجتماع، تعبر عن واقع اجتماعي تتجسد فيه الأفكار والمعتقدات والقيم والسلوكات وكافة العلاقات والتفاعلات البنيوية والهيكلية بين الأفراد والجماعات والمجتمعات.
ولإن كان الرائد السوسيولوجي الألماني، “ماكس فيبر”. قد تحدث عنها بنوع من الاستخفاف لكون الفاعل الاجتماعي، في نظره، له هوية ومرجعية يختار وفقهما ويقدم على ما يقدم عليه من أقواله وأفعاله الاجتماعية بنوع من الحرية والإرادة والمنطق العقلاني والاستراتيحي. فإن الرائد السوسيولوجي الفرنسي، “إيميل دوركايم”. قد تحدث عنها في كتابه “قواعد المنهج في علم الاجتماع” بما يجعلها حتمية وقدرية وحاسمة في كل شيء. حيث قال: إنها تاريخية، متكررة، موضوعية وقهرية تفرض نفسها على الأفراد، توجد قبلهم وتبقى بعدهم. مبرزا أنها تحدد اختيارات وتوجهات الأفراد والجماعات والمجتمعات ونوع التفاعلات السائدة بينهم وحتى الصراعات والديناميات التي تنشأ بينهم، كما هو الشأن في ظواهر اللغة والدين..، الزواج والطلاق..، البطالة والهجرة.. والجريمة والعقاب… التي تفرض معاييرها على الجميع، ولا سبيل للتحرر من قيودها إيجابية كانت أو عكس ذلك.
الظاهرة الاجتماعية أو الحادثة الاجتماعية أو حتى الفعل الاجتماعي..، ورغم ما يوجد بينهما من فوارق وتداخلات، فإن لها جميعها أشياء ظاهرة وأشياء خفية. وبالتالي لا يتم التعاطي الحقيقي والأجدى معها إلا بإدراك ذلك الوجه الخفي فيها، على حد قول “غاستون بشلار”: “لا علم إلا في ما هو خفي”. ولا يتم إدراك هذا الخفي إلا بدراستها كما يقول “دوركايم” دراسة وضعية كأشياء مجردة خاضعة للمنهج العلمي وأسسه من الملاحظة والتجريب والتحليل والتركيب والاستقراء الكمي والاستنباط الكيفي… وذلك بعيدا عن كل ما يمكن أن يضرب في المنهج العلمي والحقيقة الاجتماعية الصرفة والمجردة. بعيدا عما تتصوره ذاتية الباحث أو حتى إمكانياته. أو كما تفرضها أحيانا كثيرة بعض الضغوطات الاجتماعية الرسمية أو الاختيارات الأيديولوجية المؤدلجة للباحث. أو حتى إغراءات المؤسسات البحثية بتمويلاتها السخية أو ادعاءاتها في الجودة والخبرة المعيارية (ISO).
فكل هذا يفقد الباحث المصداقية وينحرف به عن الحقيقة العلمية ويجعله يسوق لوهم حقير يجعل الناس في معاركهم ضد مظاهر التخلف والفساد وكأنهم “دونكشوطيون” مهما واجهوا من طواحن هوائها وأعراضها زادت واستفحلت وأزمنت. فالهجرة مثلا لها مظاهر وأسباب ومآلات متعددة ومتداخلة، لم تفلح البشرية إلى اليوم في الحد منها ومن أضرارها. لأنها وفي أحسن الأحوال تعالج مجرد أعراضها؟
قديما، بحث “جورج زيمل” في ظاهرة الفقر والتسول، وعلى عكس السائد من الحس المشترك واليقين الوهمي الدافئ. وجد أن سبب ظاهرة تسول الفقراء في المجتمع الألماني هو ما يقدمه هذا الأخير للمتسولين من مساعدات اجتماعية كأفراد و كمؤسسات؟ وهذا ليس من باب دعوته إلى عدم الصدقة والرحمة والإحسان والتضامن..، إنما من اقتناعه بان تلك المساعدة هي التي تمنع المحتاجين، في نظره. من المبادرة الذاتية لتحسين أوضاعهم وإنقاذ أنفسهم، خوفا من أن يحرموا مما يتلقونه من المساعدة الموجودة والمضمونة على هزالتها.
وسواء اتفقنا مع الرجل في تحليله أو لم نتفق، فهذا ما نعيشه اليوم مع سياسة مأسسة التسول والمساعدة الاجتماعية عبر الوطن. حيث أن كثيرا من الأمهات والأسر يتخلى معيلوها عما كان يوفره لهم من العمل في الجمعيات والتعاونيات… خوفا من أن يصعد مؤشرهم الاجتماعي فيحرموا مما ألفوه من المساعدة الاجتماعية الشهرية، ولو كانت هزيلة لا تغني من شيء. ولكن وعلى قول المثل: “قليل دائم خير من كثير منقطع”.
هاته الأحوال يعيشها المحتاجون أيضا في إسبانيا و إيطاليا وأمريكا… وهو ما يحرمهم من تغيير وضعهم الاجتماعي، أو حتى الرقي داخلها. من هنا ندرك قيمة الإسلام في معالجة الظاهرة عندما أتى الرسول صلى الله عليه وسلم رجلا فقيرا يسأله شيئا، فأعطاه فأسا وأمره بأن يحتطب، فاحتطب وباع واشترى.. وكسب من عرق جبينه، سابقا بذلك من قال بعده بالمشاريع المذرة للدخل أو “لا تعطيني سمكة بل علمني كيف أصطادها”.
حاول “سيرج بوغام”، في كتابه “ممارسة علم الاجتماع”، وهو يبحث في الفقر والهشاشة، أن يظهرها في البداية، مثل الآخرين. على أنها ظاهرة اجتماعية عادية، الكل يسمع بها ويتحدث عنها، الاعلام يتناولها في مختلف الوثائقيات والحوارات، ويظهرها على أنها ظاهرة تاريخية وعالمية. ليغوص بعمق في ما بعد إلى ما وراء الظاهرة من سياسات عمومية واختلالات اجتماعية واضطراب في القيم والمعايير والتضامن والروابط الاجتماعية. فمثلا، حادثة إلغاء أضحية العيد عندنا، ورغم الاستجابة الواسعة لها من طرف المواطن، بل وانطباع الفرح بها أحيانا كثيرة. هل كانت الدواعي والحيثيات المتداولة مقنعة؟. هل أنقدنا القطيع الوطني بهاته التدابير؟. هل أوقفنا استيراد اللحوم الأجنبية، وقد بلغت حوالي 20 % من الاستهلاك الوطني؟. هل السبب يكمن فعلا في الجفاف والتغييرات المناخية؟. كيف وفي دول الجوار أو حتى في دول المشرق لم يتم فيها الإلغاء وعندها نفس الظروف المناخية القاسية وأشد؟. كيف نتحدث عن الجفاف ونحن نزرع الخضر والفواكه الأكثر استهلاكا للماء مثل “الأفوكا” و”البطيخ” الأحمر..، ونصدرها للخارج وكأننا نصدر الماء مجانا؟. أليس في هذا أيضا دخل للسياسة العمومية وتجاهل شكوى المواطن بغلاء الأسعار وقد أرهقت وألهبت حتى الطبقة المتوسطة فلم يعد بمقدورها تلبية حاجياتها الأساسية، فبالأحرى تحريك المعهود منها من عجلة الاقتصاد.
وكذلك العديد من الظواهر الاجتماعية التي تحدث ضجيجا، اليوم، ذات الصلة بمجالات الصحة والتعليم والتنمية والديمقراطية والريع والتطبيع… وهو ما هو أقصى جدي إلى ما هو أقصى هزلي يطرح السؤال الحارق: هل سنضمن الحق الدستوري للمواطن الصحة بمجرد هذه القوافل الطبية المتجولة؟. أو حتى بنبت وفطر المصحات الخصوصية في المدن الكبرى؟. لماذا نفشل في محاربة الهدر المدرسي والجامعي رغم ما نمنحه للتلميذ (ة) والطالب (ة) من دعم وفرص لا تنتهي؟. هل يمكن تحقيق الجودة وتكافؤ الفرص في المدرسة المغربية وهما غير موجودتان في المجتمع؟. هل يمكن تدريس جيل لا تعني له المدرسة أي شيء، غير ما يحدث فيها من العنف والشغب وشتى أنواع الانحراف الذي يكون له جسرا من الإعلام والمحيط المدرسي إلى داخل الفصول الدراسية؟.
ظواهر الفقر والهشاشة.. التفكك الأسري.. العزوف عن الزواج.. الهجرة القسرية.. العدوان الظالم على “غزة” والصمت والخذلان.. كبت الحريات.. التطرف.. المخدرات.. التفاهة.. “موازين” والدفاع عنها بحجة الحضور الجماهيري المكثف والمتعدد الأذواق. مع العلم أن علاقة المهرجان بالفن وبالذوق فيها نقاش معمق. وأن من لم يحضروه ولا حتى من شاهدوه عبر الشاشات أكثر كثافة وبالأضعاف؟. ولماذا “موازين” الرباط فقط وفي كثير من المدن وحتى القرى “موازين” و”موازين” في ترويجها للمخدرات لا تقصر. وفي جرأتها على العفة لا تكل. وفي إفسادها للذوق لا تنتهي.
ولكن، كيف بهذه المهرجانات تجد من سخاء الدعم وقوة البرمجة وجهود الإنجاز ما لا يجده غيرها من المشاكل التنموية الحقيقة للجماعات؟. على أي أساس علمي أو تنموي يتم اعتمادها؟ أم أنها مجرد مصالح وصفقات وأكل أموال الجماعات بطرق تستعصي على الحسابات والمتابعات؟. لا تنمية حقيقية بدون دراسات علمية واقتصادية، سوسيو-ثقافية.. موضوعية ورصينة. هنا تظهر الظواهر والمعضلات الاجتماعية على حقيقتها، خاصة في جوانبها البنيوية الخفية.
فالظواهر الاجتماعية تحفي في الغالب ما لا تظهره. حيث لا يتسنى للفاعلين والمتدخلين مواجهتها بشكل مناسب وفعال دعما أو محاربة إلا بمعرفة الظاهر والخفي. ومن أجل ذلك لا بد من دراسة الظاهرة/المشكلة من جميع جوانبها. لأن طبيعة الأشياء تكون أيضا معقدة ومركبة، نسقية ومنتظمة، لا يغني فيها التعاطي مع جزء واحد منها دون بقية الأجزاء.
ثانيا، عدم الاكتفاء بالوجه البراق والدعائي للأشياء. فقد تكون مزيفة غير حقيقية. ووهو ما وقف عليه الدكتور “مارسيل كوبر”، بعد 30 سنة من دراسته للسقي النقطي في المجال الفلاحي في العديد من الضيعات الفلاحية. حيث وجد أن هذا النوع من السقي (Goutte à Goutte)، وعلى عكس ما تتم إشاعته. لا يقتصد في استعمال الماء بل يسرف فيه بسبب الأحواض المائية التي يتم تجميعه فيها. حيث يتعرض للتبخر قبل الاستعمال وبعده. وهو بذلك يقف وراء تأثر الفرشة المائية العميقة وانقراض بعض المزروعات التقليدية والإيكولوجية وبطالة الشباب القروي وهجرتهم إلى المدن؟.