جاء الخطاب الملكي الأخير، الذي ألقاه صاحب الجلالة الملك “محمد السادس”، نصره الله وأيده، بمناسبة افتتاح السنة التشريعية. كجرس إنذار مبكر، ودعوة صريحة لإعادة بناء الثقة بين الإعلام والمجتمع. وإلى ترسيخ مفهوم المسؤولية المهنية والأخلاقية داخل الحقل الإعلامي الوطني.
فجلالة الملك، كعادته، لا يتحدث من فراغ، بل يضع خريطة طريق استراتيجية تضع الإعلام في صلب مشروع التنمية والديمقراطية.
حيث أكد الخطاب الملكي أن الإعلام ليس مجرد أداة لنقل الأخبار. بل شريك في البناء، ورافعة للوعي، ووسيلة لترسيخ قيم المواطنة.
غير أن الواقع المهني اليوم يظهر مفارقة مؤلمة. فبينما يطالب جلالة الملك بإعلام مسؤول وحر وملتزم بالضوابط الأخلاقية. نجد أن الصحفي المغربي يعيش في وضع هشّ ومعقد. حيث يعاني من غياب الدعم، وتراجع الاعتراف الاجتماعي، وانكماش سوق الإعلانات، وتدهور أوضاع المقاولات الصحفية.
فالإعلام في المغرب، رغم كل الجهود المبذولة. لا زال القطاع الوحيد الذي لا سند فعلي له.
فالمقاولات الإعلامية تعيش تحت وقع ضائقة مالية خانقة. وصحفيوه يكافحون من أجل لقمة العيش في بيئة مهنية غير مستقرة.
لا صناديق تضامن حقيقية، ولا رؤية استراتيجية لتأهيل البنية الاقتصادية للقطاع. وهو ما يجعل الصحافة أكثر القطاعات ححاجة للحرية، وأقلها تمتعا بالاستقرار.
وهنا لا بد من طرح سؤال جوهري مفاده: من المسؤول عن هذا التأزم البنيوي؟ هل الأمر يتعلق بعدم وضع سياسة عمومية واضحة للإعلام الوطني؟ أم أن المسؤولية تتحملها النقابات المنشغلة بمطالب جزئية ناسية الدفاع عن كرامة المهنة والمهنيين؟ أم بعض من المقاولات التي استسلمت للواقع بدل الإبداع في نماذج اقتصادية جديدة؟
إنّ الإعلام لا يمكن أن يقوم بدوره في بناء الثقة، ما لم يتم احترام كرامة الصحفي وضمان حقوقه الاجتماعية.
فما لم يتم توفير الحد الأدنى من شروط العيش الكريم والاستقلال المهني للصحافيين والصحافيات. حيث أنه لا يمكن أن نطلب من إعلامي أن يكون حرا ومسؤولا، في ظل واقع يتسم بالهشاشة وغياب الاستقرار.
لقد دعا جلالة الملك، بحكمة وبعد نظر، إلى بناء إعلام يعكس صورة المغرب الحقيقية. ويساهم بالتالي في بناء المواطنة الإيجابية.
دعوة لا يمكن أن تتحقق بالشعارات، بل بإرادة سياسية وإصلاح مؤسساتي شامل يعيد الاعتبار للصحافة الوطنية كمرفق عمومي وخدمة اجتماعية قبل أن تكون نشاطًا تجاريا.
إن الإصلاح الإعلامي الحقيقي لا يبدأ من القوانين فقط، بل من رؤية متكاملة تجمع بين التكوين، والدعم، والتمويل، والحرية، والمسؤولية. فالإعلام القوي لا يتم بناؤه بالبلاغات، بل بتمكين الصحفي من أداء رسالته في كرامة واستقلالية.
ولعل الرسالة الأسمى التي يمكن أن نستخلصها من الخطاب الملكي هي أن إصلاح الإعلام شرط لإصلاح المجتمع. وأن لا ديمقراطية بدون إعلام مهني، نزيه، ومؤمن بوطنه قبل كل شيء.