إدانة مستشار جماعي بسلا: حين يتحول المنصب العمومي إلى عبئ أخلاقي ومسؤوليات مشتتة
محمد حميمداني
محمد حميمداني
في سابقة أعادت طرح سؤال الأخلاق والمسؤولية في تدبير الشأن المحلي. أصدرت المحكمة الابتدائية ب”سلا” حكما قضائيا بإدانة مستشار جماعي ونائب رئيس مقاطعة ينتمي إلى أحد أحزاب الأغلبية المسيرة للمجلس الجماعي ل”سلا”. بشهر واحد حبسا موقوف التنفيذ مع غرامة مالية قدرها 3000 درهم. وسحب رخصة السياقة لمدة ستة أشهر. إضافة لإرجاع مبلغ الكفالة الذي كان قد أودعه المستشار المدان.
الحكم جاء عقب قرار المحكمة متابعة المستشار الجماعي في ملف جنحي تلبسي، على خلفية ارتكابه أفعالا مخالفة للقانون أثناء استعماله سيارة تابعة للجماعة. في وقت كان فيه في حالة سكر علني بين، وبحوزته كمية من مخدر “الشيرا”، حسب ما أفادت به معطيات البحث القضائي. في واقعة سلطت الضوء على هشاشة بعض النماذج المنتخبة التي تدير الشأن المحلي.
حكم يطرح أكثر من تساؤل ارتباطا بطبيعة الأفعال المرتكبة، ما بين استعمال سيارة الجماعة لأهداف شخصية واستعمالها في فعل السكر العلني البين وأيضا ضبط مخدر “الشيرا” بداخلها. وهو ما يثير الاستغراب ويفتح باب التساؤلات، خاصة وأن مصادر تحدثت قبيل صدور الحكم عن وجود وساطات حزبية وعائلية في الملف من اجل طيه أو تخفيف تبعاته القانونية. علما أن المستشار موضوع المتابعة تم ضبطه متلبسا أثناء عملية التوقيف عقب حادثة سير تعرض لها وهو في حالة سكر طافح بسيارة الجماعة.
كما تطرح هاته المحاكمة تساؤلات جدية حول أخلاقيات المسؤولية العمومية، ومدى التزام بعض المنتخبين بالقيم التي يفترض أن يجسدوها أمام المواطنين باعتبارهم مؤتمنين على المال العام وعلى أداء رسالة خدمة ناخبيهم.
كما أبانت الواقعة عن مجموعة من المفارقات الصادمة التي تعكس مدى السوقية والانحدار الذي وصل إليه التدبير الجماعي. والاستهثار بروح القانون في لحظة كان من المفترض أن يكون هؤلاء المنتخبون عنوان رسالة صفاء وأخلاق لاستعادة مصداقية المؤسسات المنتخبة. إلا أن ما حدث أبان عن وجود حالة انفصام بين الخطاب السياسي والممارسة الواقعية. وأرجع الثقة مستويات رقمية إلى الوراء.
فهل بهاته الصورة سنعيد الثقة في المؤسسات؟. وهل بهاته الصورة سنجعل المواطنين يؤدون واجبهم الوطني خلال الاستحقاقات الانتخابية بتفاؤل وثقة؟. وهل بهاته الصورة يمكن لمواطن أن يثق في مرشحين ينتخبهم ويعقد عليهم آماله؟. وهل بهاته الصورة سنجود الأداء التدبيري ونحقق التخليق للحياة العامة؟. وهل بهاته الصورة سنصنع جيلا من حملة مشعل راية الغد البانين للوطن والمكافحين من أجل وحدته الترابية وعزته وكرامته؟. وهل بهاته الصورة سيتم تحقيق التنمية والتنمية المستدامة وسيتم تنزيل النموذج التنموي الجديد وتفعيل الجهوية الموسعة؟. وهل الحكم الموقوف التنفيذ سيعيد بناء منسوب الثقة المفقودة والتي ازدات اتساعا؟.
والغريب في الأمر، وعلى الرغم من صدور الحكم فلم يخرج أي بيان توضيحي أو قرار إداري لا من الجهات المحلية أو الإقليمية ولا من وزارة الداخلية، فيما يتعلق بالعقوبات الإدارية. ولا من الحزب الذي ينتسب المستشار للائحته فيما يتعلق بالقرار التأديبي. وكأن شيئا لم يحصل.
واقعة من المفترض أن تقلب الأوراق وأن تعيد رسم أسس وجود الأحزاب السياسية والإعلام الحزبي والمجالس المنتخبة. وأيضا طبيعة الانتخابات التي تفرز هاته الأنماط المتهالكة والمتلاشية من المنتخبين.
منتخب جماعي ب”سلا”: سكر ومخدرات تعكس أزمة أخلاق في تدبير الشأن المحلي
المتابعة والحكم تجسيد لقوة القانون واستقلاليه أم العكس
كشفت حادثة السير التي وقعت فصولها ب”مدينة سلا”، عن وجهٍ آخر لأزمة القيم في تدبير الشأن المحلي. بعدما ضبطت عناصر الشرطة القضائية أحد المنتخبين الجماعيين في حالة سكر علني بين، وبحوزته كمية من مخدر “الشيرا”. بينما كان يستعمل سيارة تابعة للمجلس الجماعي دون ترخيص رسمي.
كما انها عرت واقع التدبير الجماعي وما وصل إليه من واقع مأساوي. وما ينخر الكيان التدبيري الجماعي من أورام سرطانية خبيثة من جهة استعمال السيارة الجماعية في غير الشق المخصص لها بل وتصريفها كوسيلة لممارسات غير أخلاقية.
وعلى الرغم من إيماننا بقوة القضاء واستقلاليته على اعتبار أن “القانون هو أسمى تعبير عن إرادة الأمة، والجميع، أشخاصا ذاتيين أو اعتباريين، بما فيهم السلطات العمومية، متساوون أمامه:.
إلا أن الحكم لم يكن في مستوى إنصاف مرحلة سياسية هامة في تاريخ المغرب. كما انه تجاهل نقاطا بقيت معلقة في شأن طريقة استعمال السيارة الجماعية لأغراض شخصية. والنبش في أسئلة ذات صلة بمن فوض له أمر القيام باستعمال السيارة؟. وأين الأجهزة الرقابية التدبيرية للمجلس؟. علما ان السيارة تتغدى من بنزين المجلس، أي المال العام. ومن هنا تبقى رآسة المجلس مسؤولة عما حصل مسؤولية كاملة. والأغرب أنها بدل أن تتخذ قرارا جريئا بناء على الحكم الصادر لادت بالصمت مرجعا في موقف يطرح تساؤلات عدة. علما ان الدستور يؤكد على ان المرافق العمومية تمارس في إطار المساواة والشفافية والمحاسبة، وتخضع لمعايير الجودة والمسؤولية.
من التمثيل إلى الإدانة: أزمة الثقة في المنتخبين
تثير هذه الإدانة موجة تساؤلات حادة حول معايير الانتقاء داخل الأحزاب السياسية، ومدى مراقبتها لسلوك أعضائها المنتخبين، خصوصا حينما يتعلق الأمر بشخصيات تحمل صفات تمثيلية يفترض أن تكون قدوة للمواطنين.
ففي الوقت الذي ينتظر فيه المواطن من المنتخب أن يجسد روح المسؤولية والالتزام بالقانون، يجد نفسه أمام نموذج مغاير يسيء لصورة العمل السياسي ويعمق أزمة الثقة في المؤسسات المنتخبة. لأن المشكل لا يكمن في العقوبة فقط، بل في الصمت الحزبي المريب. عندما لا تتحمل الأحزاب مسؤوليتها الأخلاقية، فإن تفقد السياسة معناها.
إن خرس المجلس كما الحزب المنتسب له المستشار وعدم إيراد أي موقف رسمي أو بلاغ حزبي، يثير تساؤلات حول آليات المساءلة الداخلية داخل الأحزاب، ومدى احترامها لمبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة الذي أكد عليه جلالة الملك “محمد السادس”، نصره الله، في خطاب العرش لعام 2017، حيث قال جلالته: “إن المسؤولية تقتضي ربطها بالمحاسبة، ومن تم فإن من لا يقوم بواجبه لا مكان له في تحمل المسؤولية”.
كما أن القانون التنظيمي رقم 113.14 المتعلق بالجماعات الترابية ينص في المادة 67 على إمكانية العزل أو التوقيف المؤقت في حال ارتكاب المنتخبين لأفعال مشينة أو تخل بالثقة الموكولة إليهم.
منتخب جماعي ب”سلا”: سكر ومخدرات تعكس أزمة أخلاق في تدبير الشأن المحلي
الحكم “موقوف التنفيذ” لا يعني البراءة الأخلاقية
صحيح أن الحكم الصادر “موقوف التنفيذ”، ما يعني أن المتهم لن يقضي العقوبة خلف القضبان إلا إذا عاد لارتكاب نفس الأفعال. إلا أن الأثر الرمزي للحكم يبقى قائما. خاصة حينما يتعلق الأمر بمسؤول عمومي.
فالقضاء يقول كلمته القانونية، لكن المجتمع ينتظر كلمة الأخلاق والسياسة. وهنا يبرز مبدأ أساسي من مبادئ الحكامة الجيدة. وهو أن النزاهة لا تفرض بالقانون فقط، بل تبنى بالقدوة.
الإدانة وأسئلة المسؤوليات
قرار فتح الباب أمام مجموعة من التساؤلات ضمنها. هل ستتخذ وزارة الداخلية إجراءات تأديبية استنادا إلى تقارير النيابة العامة؟. وهل سيبادر الحزب الذي ينتمي إليه المستشار إلى تجميد عضويته أو عزله من مهامه؟. وهل يملك كل من مجلسي المقاطعة والجماعة الشجاعة لفتح نقاش مؤسساتي حول الأثر الأخلاقي لهذه الإدانة على صورة المؤسستين؟.
أسئلة تعكس عمق الإشكال البنيوي في تدبير الشأن المحلي، حيث ضعف المساءلة السياسية يجعل العقوبة القضائية مجرد محطة عابرة لا أثر لها على الواقع السياسي. فالواقعة عكست ازمة في القيم في العمل الجماعي. وهو ما يسلط الضوء من جديد على الخلل في منظومة الأخلاق السياسية، حين يصبح الوصول إلى المنصب هدفا في حد ذاته، لا وسيلة لخدمة المواطنين.
فالقانون وحده لا يكفي لضمان النزاهة، ما لم تعمل الأحزاب والمجالس المنتخبة على تفعيل آليات الرقابة الداخلية وتربية أعضائها على ثقافة القدوة والشفافية. لأن السياسة بلا أخلاق كما السفينة بلا بوصلة.
فالواقعة أعادت إلى الواجهة سؤال النزاهة والمسؤولية داخل المجالس المنتخبة. وطرحت إشكالات قانونية متعددة ذات صلة بتدبير الشأن العام. كما ان اكتفاء المحكمة بعقوبة موقوفة التنفيذ، أثارت تساؤلات حقوقيين حول مدى تحقق الردع العام. خاصة عندما يتعلق الأمر بشخص من المفترض أن يكون نموذجا في احترام القانون.
منتخب جماعي ب”سلا”: سكر ومخدرات تعكس أزمة أخلاق في تدبير الشأن المحلي
بين الفساد المحلي وضعف المحاسبة أية مسافة؟
القضية المثارة ليست معزولة ،حيث سجلت تقارير المجلس الأعلى للحسابات في أكثر من مناسبة وجود اختلالات في تدبير أسطول سيارات الجماعات الترابية، مؤكدة أن غياب الضوابط الرقابية يجعل بعض المنتخبين يستعملونها لأغراض شخصية، في خرق واضح لمبدأ الشفافية وربط المسؤولية بالمحاسبة المنصوص عليه في الفصل 154 من الدستور المغربي.
جدير بالذكر أن وزارة الداخلية كانت قد أصدرت دوريات عدة (منها المنشور الوزاري رقم D-2185 الصادر في 12 أكتوبر 2017)، تحث فيها على ترشيد استعمال سيارات الدولة. والتصدي لأي استغلال غير قانوني لها من قبل المسؤولين المحليين.
غياب الموقف السياسي والإداري أي سر؟
رغم صدور الحكم، لم يصدر أي بيان رسمي من الحزب الذي ينتمي إليه المعني بالأمر. كما لم تعلن وزارة الداخلية أو عمالة سلا عن أي إجراء إداري تأديبي.
هذا الصمت يكرس، بحسب مراقبين، ثقافة الإفلات من المساءلة داخل الأحزاب السياسية. وهو ما يضعف بالتالي ثقة المواطن في المؤسسات المنتخبة. فحين يغيب الموقف الأخلاقي من السلوك المنحرف، يفقد الحزب وظيفته التربوية، ويتحول إلى مجرد ماكينة انتخابية.
كما أن هذا الموقف بفجر سؤال الثقة، في زمن تتراجع فيه المشاركة الانتخابية. فحينما تبرز مثل هذه الأحداث كعوامل مدمرة فإنها تزلزل ما تبقى من الثقة بين المواطن والسياسي.
فهل يمكن إقناع الناخبين بالمشاركة في الاستحقاقات القادمة إذا كانت بعض النماذج المنتخبة تسيء إلى صورة المؤسسات بدل أن تعززها؟. وهل يعقل أن يبقى منتخب مدان قضائيا في موقعه دون مراجعة حزبية أو مساءلة جماعية؟. فالسياسة أخلاق قبل أن تكون سلطة. ومن لا يملك أخلاقا لا يحق له أن يمثل الناس.
القضية ليست مجرد ملف قضائي، بل مرآة لواقع التدبير المحلي الذي يعيش على وقع الفساد البنيوي وضعف الرقابة. فإعادة الاعتبار للعمل الجماعي يمر عبر تفعيل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة وإقرار ميثاق أخلاقي ملزم للمنتخبين، حتى لا يتحول المنصب العمومي إلى امتياز خاص.
منتخب جماعي ب”سلا”: سكر ومخدرات تعكس أزمة أخلاق في تدبير الشأن المحلي