يعرف ملف الصحراء المغربية عدة تحولات نوعية غير مسبوقة تؤشر على اكتساح الموقف المغربي المشهد الدبلوماسي والدستوري العالمي اتجاه دعم الطرح الواقعي الذي قدمته المملكة. وذلك على الرغم من المحاولات الفاشلة للجزائر وصنيعتها في محاولة تحقيق نصر وهمي وتحقيق إجماع معزول ومعاق.
كل ذلك يأتي بعد أن أصبح مقترح الحكم الذاتي الذي تقدم به المغرب عام 2007 المرجع الوحيد المعتمد أمميا لحل هذا النزاع الإقليمي المفتعل الذي عمر لما يقارب نصف قرن.
وفي هذا السياق، فقد جاء “القرار الأممي رقم 2797″، الصادر في 31 أكتوبر 2024. ليؤكد بشكل صريح لا يحمل أي علامة لبس. مع تبني مجلس الامن المقترح المغربي كمرجعية واقعية للحل، واضعا بذلك نهاية لمسارات التأويل السياسي التي تم تطبيقها لعقود.
قرار أممي مفصلي يعيد هيكلة مسار المفاوضات
تجدر الإشارة إلى أن هاته الطفرة التحولية قادتها “الولايات المتحدة الأمريكية” من خلال تقديمها مشروع القرار الذي أعدته وعرضته على مجلس الأمن الدولي من أجل التبني والمصادقة. حيث صادقت على المقترح الأمريكي 11 دولة. ضمنها “الولايات المتحدة”، “فرنسا”، “المملكة المتحدة”، “اليونان”، “الدنمارك”، “بنما”، “الصومال”، “سلوفينيا”، “سيراليون”، “كوريا الجنوبية” و”غانا”. فيما امتنعت 3 دول عن التصويت. والأمر يتعلق ب”الصين”، “روسيا” و”باكستان”. بينما اختارت الجزائر عدم المشاركة في التصويت.
وهكذا فقد تمكنت الدبلوماسية المغربية من تحويل التحدي إلى فرصة استراتيجية، حيث أسفرت الجهود الدبلوماسية المكثفة عن اعترافات دولية متزايدة بمغربية الصحراء، ودعم واسع النطاق لمقترح الحكم الذاتي. حيث حظي هذا المقترح بتأييد حوالي 120 دولة في “الأمم المتحدة”. وهو ما يعكس الزخم الدولي الكبير الذي اكتسبه الموقف المغربي.
وقد اعتبر خبراء العلاقات الدولية أن هذا القرار حول مبادرة الحكم الذاتي من خيار مطروح إلى سكة تفاوض إلزامية. مبرزين أن القرار 2797 ليس مجرد تأكيد على دعم سابق. بل هو تثبيت قانوني لمسار سياسي جديد مفروض على الأطراف.
وأضاف ذات الخبراء أن نجاح الدبلوماسية الملكية في إقناع هذا العدد الكبير من الدول بمشروعية وحجية خطة الحكم الذاتي، لم يأت بين ليلة وضحاها. بل جاء نتيجة رؤية استراتيجية هادئة وقوة ناعمة للدبلوماسية المغربية إقليميا ودوليا.
وهكذا تشكل الرؤية الاستراتيجية لجلالة الملك “محمد السادس”، أعزه الله. حجر الزاوية في هذا التحول الدبلوماسي التاريخي. حيث قادت الدبلوماسية الملكية المستنيرة مسارا طويلا تم تتويجه بالحصول على دعم دولي واسع لمقترح الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية.
مرحلة شكلت لحظة فارقة في هذا المسار. حيث قطع “المغرب” الطريق على كافة المحاولات التي بذلتها “الجزائر” للالتفاف على واقعية الحل المغربي المعتمد أمميا. وأوقفت مسلسل البكاء والتباكي على أطلال “حق تقرير المصير” المتجاوز امميا.
وأكد باحثون ، أن هذا القرار “جعل مبادرة الحكم الذاتي السكة التي يتعين أن يسير عليها قطار المفاوضات. وأن السيادة المغربية على الصحراء هي محطة الانطلاق. وأن التوصل إلى اتفاق نهائي هو محطة الوصول”.
الدبلوماسية المغربية: رؤية ملكية ونتائج مُتراكمة
خلال تقديم الميزانية الفرعية بمجلس النواب المغربي، شدد وزير الخارجية والتعاون الأفريقي والمغاربة المقيمين بالخارج، “ناصر بوريطة”. على أن الدعم الدولي للمقترح المغربي لم يعد “تصريح تضامن”. بل أصبح اعترافا قانونيا وسياسيا. قائلا: “اليوم لم نعد في مرحلة الدفاع، بل في مرحلة تثبيت السيادة واستثمار المكاسب”.
تحول عالمي لم يكن وليد اللحظة بل نتاج مسار دبلوماسي طويل وعسير قطعته الدبلوماسية المغربية بقيادة جلالة الملك “محمد السادس”، نصره الله. المعتمد على ما أسماه الباحثون في العلاقات الدولية ب“الدبلوماسية الهادئة ذات النفس الطويل”.
وأكد “ناصر بوريطة”، أن الدعم الدولي لمقترح الحكم الذاتي يتنامى بشكل ملحوظ، لا سيما من “الولايات المتحدة الأمريكية”. وهو دعم فعلي يعزز المسلسل السياسي نحو حل نهائي قائم على السيادة المغربية.
الحكم الذاتي: مضمون مشروع واضح المعالم
جدير بالذكر أن المقترح المغربي ينص على تمكين “جهة الحكم للصحراء” من إدارة شؤونها في استقلالية وبشكل ديمقراطي عبر مؤسسات تشريعية وتنفيذية وقضائية مستقلة نسبيا. مع احتفاظ الدولة بصلاحيات استراتيجية في مجالات الدفاع الوطني، العلاقات الخارجية والنظام القضائي الأعلى.
وتبعا لذات المقترح سيكون لرئيس حكومة “جهة الصحراء” صلاحيات واسعة. حيث سيتم انتخابه عبر البرلمان الجهوي الذي يضم ممثلين منتخبين من القبائل الصحراوية والساكنة العامة.
وفي هذا الشأن، تمارس “جهة الحكم الذاتي” اختصاصاتها التنفيذية من خلال “رئيس حكومة ينتخبه البرلمان الجهوي، ينصبه الملك”. بينما يتكون البرلمان الجهوي من أعضاء “منتخبين من طرف مختلف القبائل الصحراوية”، وآخرين “منتخبين بالاقتراع العام المباشر من طرف مجموع سكان الجهة”.
التنمية: رافعة السيادة الميدانية
إلى جانب هذا الحل السياسي والقانوني والدستوري، تحولت الأقاليم الجنوبية لمختبر لمشاريع كبرى تم إطلاقها. والتي شملت مجالات البنية التحتية، الطاقة والاقتصاد الأزرق.
من أبرز هاته المشاريع التي تم إطلاقها يمكن الحديث عن مشروع الطريق السيار الرابط بين “تيزنيت والداخلة”، الممتد على مساحة 1000 كلم. إضافة ل”ميناء الداخلة الأطلسي” الذي يعتبر شريانا مفتوحا على العمق الأفريقي. فضلا عن منظومات تحلية المياه واستصلاح الأراضي الزراعية. وهو ما حول الأقاليم الجنوبية من المملكة لنموذج عالمي في التنمية والعدالة الترابية.
إطلاق معركة من أجل تثبيت المكتسبات وبناء مستقبل مشترك
يرى محللون أن المرحلة القادمة تتطلب تعبئة مشتركة بين مؤسسات الدولة والساكنة المحلية لضمان تنزيل سلس للحكم الذاتي بعد اعتماده النهائي من قبل الأمم المتحدة. وهو الوضع الذي وقف عليه جلالة الملك “محمد السادس”، حفظه الله. في خطاب ألقاه عقب اعتماد مجلس الأمن الدولي للقرار الداعم لخطة الحكم الذاتي مشددا على: أن المغرب يعيش مرحلة مفصلية ومنعطفا حاسما في تاريخ المغرب الحديث ف”هناك ما قبل 31 أكتوبر 2025 وهناك ما بعده. فقد انتهى زمن النقاش حول مغربية الصحراء وبدأ زمن استثمارها ضمن مغرب موحد من طنجة إلى الكويرة”. مشددا على أنه قد “حان وقت المغرب الموحد من طنجة إلى الكويرة الذي لن يتطاول أحد على حقوقه وعلى حدوده التاريخية”.
وهكذا فقد تجاوز قرار مجلس الأمن الأخير كونه مجرد دعم سياسي. ليصبح تغييرا جذريا في قواعد اللعبة الجيوسياسية. ومع مشروع الحكم الذاتي، تتجه المنطقة نحو حل قائم على “قاعدة لا غالب ولا مغلوب”، وفق رؤية تنموية تضمن الأمن والاستقرار والتعاون الإقليمي.
وفي هذا الشأن تمثل المشاريع التنموية الكبرى التي تم إطلاقها في الأقاليم الجنوبية ركيزة أساسية في تعزيز السيادة المغربية. ليؤكد المغرب عمليا انتقاله من مرحلة الدفاع عن الشرعية إلى مرحلة تثبيت السيادة عبر العمل التنموي الملموس. تحقيقا للعدالة المجالية والإنصاف الترابي وتكافؤ الفرص.
ويجمع المتابعون أن المرحلة المقبلة ستشكل منعطفا حاسما في مسار طي هذا النزاع الإقليمي المفتعل. والتي تتطلب تعبئة شاملة ويقظة مستمرة. مع أهمية تكامل الجهود بين مختلف المؤسسات لتعزيز التنمية في الأقاليم الجنوبية. واستثمار مشاركة السكان المحليين لتعزيز اللحمة الوطنية والانتماء الوطني معززين بالشرعية الواقعية للمكاسب الدبلوماسية الدولية.
بهاته الرؤية العميقة والإرادة القوية. يسير المغرب بخطوات تابثة وهامة نحو الحسم النهائي للملف وطيه بلا رجعة نحو مزيد من تأكيد السيادة المغربية. وفي الوقت نفسه فاتحا ذراعه لبناء مستقبل مغاربي على قاعدة “لا غالب ولا مغلوب” التي أكد عليها جلالة الملك “محمد السادس”، أعزه الله. موجها من خلال هذا الاقتراح نداء وحدة وأخوة وتعاون إقليمي خادم لمستقبل شعوب المنطقة.