مخاطر “الإدمان الرقمي”

بعدما اقتحمت التكنولوجيا مختلف مناحي الحياة بتفاصيلها اليومية، أصبح تحقيق التوازن بين الحياة الواقعية والرقمية هاجسا يؤرق الجميع، وخاصة الآباء الذين يجدون صعوبة في إقناع أبنائهم بخطورة الإدمان على العالم الرقمي، وأهمية تقليص عدد الساعات الطويلة التي يقضونها أمام شاشات الهواتف وعلى مواقع التواصل الاجتماعي والألعاب الإلكترونية، لما لذلك من تأثير خطير على صحتهم الجسدية والنفسية، خاصة وهم في مستهل موسم دراسي جديد.

وفي هذا السياق، يتطرق الأخصائي في الطب النفسي والخبير في علاج الإدمان والتحفيز المغناطيسي، سعد الإدريسي الوكيلي، في حوار خص به وكالة المغرب العربي للأنباء، إلى مخاطر الإدمان الرقمي، ودور المعالج النفسي في تعزيز الوعي بجعل التكنولوجيا أداة لتسهيل الحياة وجعلها أكثر جودة، دون الوقوع في فخ الإدمان على العالم الرقمي.

1- متى يمكن الحديث عن الإدمان الرقمي ؟

غالبا ما يصنف الاعتماد المفرط على التكنولوجيا الرقمية وعدم القدرة على التخلص من الارتباط بالفضاء السيبراني، في خانة “الإدمان الرقمي”، ما يستدعي تدخل الطبيب النفسي من أجل استعادة التوازن الصحي في الحياة اليومية وفق جدول زمني مرن يتيح استكشاف بدائل أخرى كالمطالعة والسفر والتطوع.

فإذا كانت غالبية الآباء يقتنون هواتف ذكية لأبنائهم لضمان التواصل معهم، فإن استغناء الإبن عن الهاتف الذي يتضمن العشرات من التطبيقات والمعلومات التي تمكنه من الإبحار في عالمه الافتراضي، يصبح في ما بعد أمرا شبه مستحيل.

لقد أصبح العالم الرقمي واقعا مفروضا وجزءا من الحياة المجتمعية العصرية، وفي اعتقادي فإن المشكل لا يكمن في استعمال الوسائط الاجتماعية بكثرة، ولكن في قضاء الأطفال والشباب وقتا طويلا وأحيانا إلى وقت متأخر من الليل على مواقع التواصل الاجتماعي وإدمان الألعاب الإلكترونية، وأيضا في الصعوبات التي تعترض أولياء الأمور في التوجيه وتقنين استعمال أبنائهم لهواتفهم المحمولة.

ويصبح تأثير الأجهزة الإلكترونية سواء الهاتف المحمول أو اللوحة الإلكترونية بشكل مباشر على الأداء الدراسي للأطفال والشباب وعلى العملية التعلمية برمتها، ويؤدي كذلك إلى اضطراب في السلوك، يصل حد إهمال الواجبات اليومية وصعوبة في تعلم المهارات الاجتماعية وتملص من المسؤولية والانفعال والقلق ورفض التواصل مع الغير وتراجع التحصيل الدراسي، وضعف الاهتمام بالبحث العلمي والمشاركة الفعالة داخل الفصول الدراسية.

ويضطر الآباء الذين اقتنوا لأبنائهم طواعية جهازا محمولا لتجاوز مخاطر استخدام الوسائط الرقمية على صحتهم الجسدية والنفسية، إلى اتخاذ قرارات صعبة حسب درجة ارتباط أبنائهم بالعالم الافتراضي، فبعد التساهل والتسامح، يأتي الزجر والعقاب، فاللجوء إلى طلب المساعدة من ذوي الاختصاص لحماية أبنائهم من بعض المخاطر الصحية أو النفسية من المحتوى الرقمي ومن ولوج بعض المواقع التي تعرضهم للخطر.

2- كيف يساعد الطبيب النفسي الشباب على الخروج من دائرة الإدمان الرقمي ؟

دور المعالج النفسي يبدأ أولا بتقديم تشخيص لظاهرة مرضية تندرج في إطار “الإدمان السلوكي للشخص”، وتظهر جليا في عدم القدرة على مقاومة الرغبة في الولوج إلى الفضاء الرقمي والتحكم في معدل الاستخدام، إضافة إلى تقييم مدى تأثير ذلك على الصحة الجسدية والنفسية وانعكاساتها السلبية على حياته اليومية.

بالإضافة إلى وضع خطة علاجية ملائمة تستهدف تحقيق تحسين الوضع النفسي والاجتماعي للفرد وتطوير مهارات التحكم في استخدام الوسائل الرقمية، والتعرف على العوامل التي تؤدي إلى زيادة الاعتماد على التكنولوجيا.

ثم يأتي دور تعزيز مهارات التعامل مع الضغوط النفسية والعواطف السلبية بدون اللجوء إلى الاعتماد الزائد على العالم الرقمي وتعزيز الاهتمام بأنشطة أخرى خارج العالم الرقمي للتقليل من الشعور بالفراغ، ويتطلب ذلك مجهودا يبذله “المدمن” لكسر عادات الإدمان في حياته اليومية والالتزام بتطبيق الاستراتيجيات والمهارات التي يعلمها المعالج النفسي.

ويمكن للمعالج النفسي، أيضا، أن يدعم العلاقات التي تربط ما بين أفراد الأسرة الواحدة وعائلاتهم لتطوير بيئة صحية تحد من الإدمان على العالم الرقمي، وفي اعتقادي فإن العلاج الجماعي يكون له دور مهم في دعم الأشخاص الذين يعانون من الإدمان من خلال التشجيع والتحفيز المتبادل المشترك بين أفراد الأسرة الواحدة، واللجوء إلى الحوار للتواصل والتعبير عن آرائهم، والتحدث بخصوص ما هو جيد وما هو سيء على منصات التواصل.

ويضطلع أولياء الأمور بدور محوري في تعزيز الوعي بمخاطر الإدمان الرقمي وتأثيره السلبي على الصحة العقلية والنفسية، ووضع حدود وقواعد واضحة بشأن الاستخدام، ولاسيما تحديد ساعات استخدام الهواتف الذكية والأجهزة اللوحية وتوفير أنشطة بديلة خارج إطار العالم الرقمي.

3- ما هي الحلول العملية والعلمية لحماية الأسر والأطفال والشباب من مخاطر “الإدمان الرقمي ؟

تتطلب حماية الأطفال والشباب من خطر الإدمان الرقمي اتخاذ مجموعة من الحلول العملية والعلمية، منها على الخصوص، مشاركة أبنائهم في الأنشطة الرقمية الترفيهية بدلا من استخدامها بشكل فردي مثل الألعاب الإلكترونية ومشاهدة أشرطة الفيديوهات والتعليق عليها، وتشجيعهم على الإبداع في استخدام التكنولوجيا وتطوير مهارات جديدة من خلال تطبيقات وبرامج تعليمية وترفيهية وإنتاج المحتوى دون إغفال مراقبة ومتابعة استخدام الأطفال للتكنولوجيا والأنشطة الرقمية للتأكد من أنها آمنة ومناسبة.

كما يتعين تعزيز الاتصال والروابط العائلية والتواصل الواقعي بين أفراد العائلة، وتحفيز الأبناء على التقليل من الاعتماد الزائد على التكنولوجيا والتوجيه بشكل إيجابي بطريقة تعليمية إثرائية في التعليم والتعلم، وتوجيههم إلى المصادر التعليمية المناسبة والموثوقة للفهم والتعلم وجعل سلوك أولياء الأمور في التعامل مع التكنولوجيا بشكل متزن وصحي نموذجا يحتذى به.

فالآباء والمربون يعتبرون نموذجا يحتذى به بالنسبة للأطفال، ولاسيما في استخدام التكنولوجيا والتحكم فيها بشكل متوازن، بالإضافة إلى تحديد المحتوى الذي يمكن للأطفال والشباب مشاهدته والوصول إليه عبر الأجهزة الرقمية، ويمكن في هذا السياق استخدام التطبيقات والأدوات التي تمكن الآباء من تحديد حدود للمحتوى.

كما يتعين وضع أسس وقواعد أسرية مشتركة في استخدام الأجهزة الرقمية تتوافق مع الاحتياجات والأعمار المختلفة للأطفال والشباب، وتحديد أوقات محددة لاستعمال الأجهزة الرقمية والتأكد من أن هذه الأوقات لا تتعارض مع ساعات النوم والواجبات المدرسية، بالإضافة إلى التشجيع على ممارسة الأنشطة البدنية والاجتماعية وتحفيزهم على اللعب والمشاركة في الأنشطة التثقيفية والرياضية في الفضاء الخارجي.

بالإضافة إلى الاهتمام بالعلاقات العائلية والتفاعل الإيجابي مع الوسائط الالكترونية الحديثة وتقوية الروابط العاطفية وتوفير بيئة داعمة للأطفال والشباب، فهناك العديد من التطبيقات والأدوات التي تسمح للآباء بمراقبة استخدام أبنائهم للأجهزة الرقمية وتفعيل “إعدادات أمان” على الأجهزة والتطبيقات للتقليل من مخاطر العالم الرقمي وضبط استعماله بطرق تتناسب مع أعمارهم تتناسب مع احتياجاتهم .

ويظل الانخراط الإيجابي ومشاركة أولياء الأمور أبناءهم في العالم السيبراني أساسيا في تحقيق التوازن في استخدام آمن ومفيد للأنترنيت وفي تعلم مهارات جديدة حول كيفية البحث عن محتوى يغذي تجربتهم الرقمية ويساهم في تطوريها، بالإضافة إلى إطلاق حملات توعوية في المدارس والمؤسسات التربوية من قبل المتدخلين وفعاليات المجتمع المدني من أجل جعل استخدام الانترنيت وسيلة لتطوير أساليب التعلم وإغناء للتطبيقات التربوية وتجربة مثمرة تساهم في التقليل من مخاطر “الإدمان الرقمي”، ومصدرا لاكتساب المهارات الحياتية وتنمية المعلومات المفيدة والجادة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.