أصبح كراء السكن في المغرب، في ظل موجة غلاء طاحنة لم تستثنِ مجالاً من مجالات الحياة اليومية. معضلة اجتماعية حقيقية، تثقل كاهل الأسر محدودة الدخل. وتدفع بالتالي الشباب والطلبة والعائلات الفقيرة إلى حافة العجز والسخط.
فبين راتب لا يتجاوز ثلاثة آلاف درهم، وكراء يتجاوز في بعض المدن خمسة آلاف درهم. يتم طرح العديد من الأسئلة بإلحاح. ضمنها إلى متى ستظل أسعار الكراء في المغرب بلا سقف قانوني؟. وأين هو الحق في السكن الكريم الذي يكفله الدستور لكل مواطن؟. وهل من المعقول أن يتم ترك سوق الكراء في يد المضاربين والجشعين دون رقيب أو ضابط؟.
لقد أصبح من غير المقبول أن يتحدث البعض عن الاستثمار العقاري فيما يتم القفز على الواقع المرير لعشرات الآلاف من الأسر التي تعاني كل شهر من أجل دفع واجب الكراء. والتي تعيش تحت رحمة أصحاب الشقق المضاربين في الاثمنة. مستغلين ضعف العرض وغياب المراقبة القانونية.
ففي مدن كبرى مثل “الرباط”، “الدار البيضاء” و”طنجة”. أصبحت كلفة كراء شقة متوسطة الحجم تقارب نصف راتب الموظف، بل أحياناً تتجاوزه. وهو ما يجعل الحصول على سكن في متناول الطبقة المتوسطة أمراً شبه مستحيل.
وإذا كان مفهوم السوق الحرة مقبولاً في بعض القطاعات. فإنه في مجال السكن غير مقبول. إذا لا يمكن أن يتم ترك تدبيره لقانون العرض والطلب لوحده. لأنه ليس سلعة ترفيهية أو كمالية، بل حاجة إنسانية أساسية لا غنى عنها. فكما تُقنن أسعار الماء والكهرباء والدقيق والأدوية، يجب تقنين ثمن الكراء أيضا. وإخضاعه لمنطق العدالة الاجتماعية والتوازن بين حق المالك في الربح وحق المواطن في العيش الكريم.
إن تقنين ثمن الكراء لا يعني تقييد الاستثمار أو مصادرة حقوق المالكين، بل هو إجراء تنظيمي يهدف إلى ضمان استقرار المجتمع. وبالتالي منع الفوضى والاحتكار. إذ يُمكن للدولة أن تتدخل عبر آلية قانونية واضحة تُحدد سقف الكراء حسب المدينة والحي ومساحة السكن وجودته. فلا يعقل أن يتم كراء شقة من 70 مترًا بمبلغ يفوق 4000 درهما في حي شعبي دون مصعد أو مرآب. فيما يدفع المواطنون في بلدان اخرى متطورة نصف هذا المبلغ مع استفادتهم من خدمات محترمة وعقود واضحة.
كما أن غياب قوانين صارمة في هذا المجال يجعل من الكراء فوضى حقيقية. حيث لا توجد عقود رسمية في كثير من الحالات. بل ويتم استغلال الحاجة الماسة للمواطنين للسكن. خاصة الطلبة منهم والمهاجرين والعائلات القادمة من البوادي. والأخطر من ذلك، أن بعض المالكين يفرضون شروطاً تعجيزية، ضمنها ثلاثة أشهر تسبيق، شهر ضمان وعقود غير مصادق عليها. مع تهديد دائم بالطرد في حال عدم الأداء.
ولعل المتضرر الأكبر من هذا الارتفاع الجنوني في الكراء هم الشباب الراغبون في الزواج والاستقرار. إذ بات حلم تكوين أسرة يصطدم بعقبة كراء بيت بسيط. الأمر الذي يدفع الكثير منهم للسكن المشترك أو اكتراء غرف فوق السطوح. أو البقاء في كنف الأسرة حتى سن متأخرة. بسبب هاته الكلفة الكرائية. وهو ما يؤدي للعزوف عن الزواج. ويؤثر بالتالي على النسيج الاجتماعي برمته.
من جهة أخرى، يتسبب ارتفاع الكراء أيضاً في عرقلة الانتقال الجغرافي من أجل العمل. إذ يرفض الكثير من الشباب عروض شغل في مدن أخرى بسبب عدم القدرة على تحمل نفقات السكن. وهو ما يُعطل الاقتصاد ويُضعف سوق الشغل.
إن الوقت قد حان لتتدخل الدولة لوضع قانون واضح وشامل لتقنين أسعار الكراء. مع خلق بوابة إلكترونية وطنية توضح الأسعار الرسمية حسب المناطق. وتفرض بالتالي تسجيل كل عقد كراء بشكل رقمي وشفاف. كما ينبغي تحفيز بناء مساكن للكراء بأسعار اجتماعية. مع منح إعفاءات ضريبية لمن يُسهم في كراء سكن اقتصادي للشباب والأسر محدودة الدخل.
السكن ليس رفاهية، بل حق. والكراء يجب أن يُصبح في متناول الجميع، لا حكراً على الأغنياء وأصحاب العقارات. وحين يصبح كراء بيت من غرفتين بعشرة آلاف درهم، فذلك يعني أن المجتمع يتجه نحو الانفجار الاجتماعي. وأن الهوة بين الطبقات تُصبح خطيرة وغير قابلة للجبر.