اغتصاب المقاهي للملك العمومي ب”الدار البيضاء” في ظل صمت السلطات

أحمد أموزك

أحمد أموزك

 

تحولت أرصفة وشوارع العاصمة الاقتصادية بالمغرب لساحة تم الاستيلاء عليها علنيا والاستحواذ بشكل مكشوف على كل تفاصيلها من قبل بعض المقاهي. لتتحول ممرات الراجلين إلى مساحات استثمارية غير قانونية.

فالتعدي على الملك العمومي يحدث أمام مرأى ومسمع السلطات المحلية المتجاهلة لتنزيل القانون، على الرغم من المذكرات الوزارية الصارمة الصادرة في هذا الشأن. وهو ما يثير تساؤلات حول طبيعة العلاقة بين أرباب هاته المقاهي والجهات الوصية.

يقول أحد المواطنين: “لم يعد المشي آمنا في العديد من أحياء المدينة. فالمقاهي تدفعك للشارع حيث خطر حوادث السير”.

تعبير يعكس واقعا فوضويا قائما بالعاصمة الاقتصادية للمملكة وممارسات لا تشكل انتهاكا للقانون فحسب، بل تهديدا للسلامة العامة. 

السؤال المطروح هو هل السلطات المحلية تعمل خارج الإطار القانوني بقذفها المذكرات الوزارية والتوجيهات الرسمية؟. بل وشرعنتها “للسطو الممنهج” على الأرصفة ومسالك الراجلين.

وضع يجد معه المواطن نفسه أمام مسلكيات فوضوية في الاتجاهين. احتلال مقاه للملك العام وإغماض السلطات العين عن هاته الخروقات. ليبقى خيار أوحد للمواطن وهو العبور من خلال ممرات السيارات بما تحمله المغامرة من مخاطر.

مذكرات وزارية تصطدم بـ”الصمم والعمى” المحلي

على الرغم من إصدار وزارة الداخلية ب”المغرب” مذكرة حاملة “لرقم 3.21.241″، بتاريخ 24 مايو 2021. دعت من خلالها المسؤولين الترابيين ل”تشديد الرقابة وشن حملات مكثفة ضد كل أشكال الاستيلاء على الملك العمومي”. إلا أن واقع الحال يسير عكس هاته التوجيهات الرسمية. وذلك في مخالفة صريحة للوارد فيها. حيث تدعو المذكرة ل”تطبيق القانون بكل حزم للحفاظ على المرافق العمومية وصحة وسلامة المواطنين”.

تجدر الإشارة إلى أن “الفصل 239 من القانون الجنائي المغربي” يجرم الاستيلاء على الملك العمومي. ويوقع عقوبات قد تصل إلى السجن من شهر إلى ستة أشهر مع غرامة من 200 إلى 500 درهم على المخالفين. كما يعاقب “الفصل 64 من نفس القانون”، “كل من استولى على شيء مملوك للغير دون وجه حق”. فيما ينظم “الظهير الشريف رقم 1.59.315″، الاحتلال المؤقت للملك العمومي لأغراض تجارية أو صناعية أو مهنية. فضلا عن إلزام “القانون التنظيمي رقم 113.14″ المتعلق بالجماعات، الجماعات الترابية بـ”الحفاظ على النظام العام في مجالات المرور والراحة والصحة والسلامة العامة”. مانحا إياها صلاحية تنظيم واستغلال الملك العمومي. كما تعتبر “المادة 100 من القانون التنظيمي للجماعات” رئيس الجماعة مسؤولا عن اتخاذ التدابير اللازمة لإخلاء الملك العمومي من كل استغلال غير مرخّص.

إلا أن ضآلة العقوبات المالية وندرة التفعيل القضائي يجعل من هاته القوانين “جعجة بلا طحين”. حيث تحولت لمجرد حبر على ورق، وهو ما يشجع على استمرار الظاهرة.

وفق تقارير صادرة في هذا الشأن، فإن حوالي 60% من شكايات المواطنين في مجال التعمير ب”الدار البيضاء” تتصل بالاستيلاء على الملك العمومي من قبل مقاه ومحلات تجارية. كما اكدت مجموعة من الدراسات أن أكثر من 75% من المقاهي في أحياء “الدار البيضاء” تحتل جزءا من الرصيف العمومي. فيما نجد أن يفوق 20% من هاته المقاهي أضافت بنايات أو تسييجات إضافية دون رخصة. وأن حوالي 63% من الشكايات المتعلقة باحتلال الملك العمومي لا تلقى أي رد من الجماعات. فيما نجد أن كل ثلاثة شكايات يقدمها المواطنون، لا يتم الرد إلا على واحدة، وفي الغالب بشكل شفهي وغير ملزم.

وفي هذا السياق أكد مواطنون ممن استقت جريدة “العدالة اليوم” آراءهم في أحياء “أنفا” و”مرس السلطان” أن المشي على الأرصفة في الأحياء “مستحيل” بسبب توسع مقاه واحتلالها لهاته الأرصفة.

من “الفداء” إلى “أنفا” انتهاكات بلون واحد

المعاينة الميدانية التي قامت بها الجريدة أبانت عن عمق مأساة الاحتلال والدوس على القانون. فبشارع “محمد السادس” ب”عمالة مقاطعات الفداء-مرس السلطان” تنتصب مقهى للمشروبات تستولي على الرصيف بالكامل. مجبرة بالتالي المارة على السير من الطريق المخصص لعبور السيارات. وهو ما يؤدى لوقوع حوادث سير، وفق إفادات سكان من المنطقة.

في مشهد ذا صلة، وتحديدا بزنقة “الليمون”، ب”عمالة مقاطعات أنفا”. تنتصب مقاه متخصصة في تقديم “النرجيلة، (الشيشة)” مغلقة مداخل عمارات، تعتبر مخارج للطوارئ ومنافذ تهوية. مستحوذة عليها ومتجاهلة بالتالي تحذيرات “مديرية الوقاية المدنية” المنبهة من خطورة الفعل في حال اندلاع حريق، لا قدر الله.

ولم تخرج “ساحة الأمم المتحدة” عن القاعدة، فأنى وليت وجهك تجد مقاه تستولي على ممرات الراجلين بشكل كامل. وهو ما حول الساحة التي يفترض أن تكون متنفسا عموميا سياحيا لفضاء شبه خاص.

المشكل الكبير الذي يؤرق السكان ليس الخرق في حد ذاته، بل تغاضي السلطات عن هذا الخرق. وإغماض عينها التي لا تنام عن هاته المخالفات. وهو ما يشكل سابقة خطيرة تضعف هيبة الدولة وتمرغ قوانينها في وحل الاحتلال وتسقطها في مستنقع العشوائية القاتلة للتوجيهات الرسمية.

العقوبات الحالية غير رادعة. وهو ما يطلق الحاجة لتعديل القانون وفرض غرامات تتناسب مع حجم الأرباح التي يجنيها المخالفون.

فالمشكلة معقدة، بل تحولت لإشكالية مع وجود مصالح متشابكة. فبعض من تراخيص الاشتغال يتم منحها بشكل غير واضح. إضافة لوجود ضغوط قد تتم ممارستها على رؤساء المصالح المحلية لغض الطرف عن بعض من هاته المخالفات.

أحد أرباب هاته المقاهي، رفض الكشف عن هويته. عكس الصورة ووصف الأمر بوضوح قائلا: “الجميع يفعل ذلك. إذا لم تتوسع، لن تتمكن من المنافسة. الرسوم التي قد ندفعها أحيانا أقل بكثير من الأرباح التي نحققها من هذه المساحات الإضافية”.

تختزل قضية استيلاء بعض من مقاهي “الدار البيضاء” على الملك العمومي أزمة أعمق. ذات صلة بفعالية التدبير الترابي وشفافية عمل السلطات المحلية.

وفي هذا الشأن يتساءل المواطنون عن مدى مصداقية الخطاب الرسمي، الداعي ل”تأهيل الفضاء الحضري” و”تحسين عيش المواطن”. فيما يتم سلب أرصفة المدينة من المواطنين بشكل علني.

وتبقى الكرة الآن في ملعب “والي ولاية جهة الدار البيضاء – سطات” لاتخاذ ما يلزم لمواجهة هذا الاحتلال المفضوح. وذلك بإصدار تعليمات واضحة وفعلية لوقف هذا النزيف والدوس على سلطة القانون وتعريض سلامة المواطنين للخطر. 

فالاحتلال العشوائي للملك العمومي يعتبر شكلا من أشكال العنف الحضري المنظم. عاكسا بالتالي تغوّل لوبي المصالح على القانون. خاصة وأن أصابع الاتهام توجه للسلطات ب”توفير الحماية” لأرباب بعض من هاته المقاهي المحسوبين على نافذين أو منتخبين.

فالمسؤولية لا يجب وضعها على أصحاب المقاهي فقط. بل على الجماعات المحلية أيضا التي تمنح “رخصا مؤقتة” يتم استغلالها لتوسيع النشاط دون مراقبة. كما أن السلطات الترابية لا تعمل على تفعيل آليات الزجر القانونية.

فالتساهل مع مخالفي القانون هو دعوة صريحة لتكريس “الريع الحضري”، وشرعنة “الفوضى التنظيمية”.

يقول أحد المواطنين ممن التقتهم “الجريدة”: “مقهى تحت شقتي أغلق منفذ الإخلاء بالكامل. اتصلنا بالسلطات أكثر من مرة ولا حياة لمن تنادي”. فيما يقول آخر: “أضطر يوميا إلى المشي وسط شارع محمد السادس لأن الرصيف محتل بالكامل. هذا لا يحدث حتى في الأسواق الأسبوعية”.

ما يجب التنبيه إليه أن المدن تقاس بجودة فضاءاتها العمومية. فحين يغيب القانون، يصبح الرصيف ملكا لمن يدفع أكثر. 

فما يجري في “الدار البيضاء” ليس فقط تعديا على الرصيف، بل تعد على دولة القانون والمؤسسات. وفي انتظار موقف رسمي حازم من السلطات، تبقى المدينة ضحية “مقاهي فوق القانون” وفضاء عمومي يُنهب كل يوم.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.