“دقيق الورق”.. النيابة العامة تتحرك و”أونسا” تسحب تراخيص 9 مطاحن

محمد حميمداني

محمد حميمداني

 

تحولت قضية “دقيق الورق”، التي فجرها النائب البرلماني، “أحمد التويزي”، إلى ملف وطني ساخن يشغل الرأي العام المغربي. بعد أن كشف تحت قبة البرلمان عن شبهات “فساد” تمس منظومة دعم القمح. وبين توضيحات الحكومة وتحركات القضاء، وجدت السلطات نفسها أمام اختبار جديد يتعلق بالشفافية والمحاسبة في تدبير المال العمومي.

وهكذا فالارتدادات التي فجرها بركان “التويزي”، عن “حزب الأصالة والمعاصرة”لا تتوقف سياسيا وإعلاميا. حيث تحول التصريح القنبلة إلى قضية رأي عام فاتحا الباب أمام تساؤلات حادة حول شفافية منظومة دعم القمح بالمغرب. فيما يعتبر خروج “المكتب الوطني للسلامة الصحية للمنتجات الغذائية”، (أونسا). وتقديمه معطيات رقمية عن تدخلاته محاولة للتهرب من النتائج المنتظرة ورمي الكرة في ملعب غير ملعبه. وهو ما يمكن ان يشعل لهيب أكبر فضيحة في تاريخ المغرب بعد فضيحة الزيوت القاتلة.

بايتاس: “القضاء يتحرك.. ودورنا احترام استقلاليته”

في أول رد رسمي على قضية “دقيق الورق”، قال “مصطفى بايتاس”، الوزير المنتدب المكلف بالعلاقات مع البرلمان والناطق الرسمي باسم الحكومة. خلال الندوة الصحافية التي تلت اجتماع المجلس الحكومي: إن “النيابة العامة تحركت في الموضوع، وهناك بحث قضائي قائم الآن يغنينا عن أي تحقيق مواز من طرف المصالح الحكومية”.

وأضاف “بايتاس”: “يجب ترك المجال للجهات القضائية لتقوم بعملها في استقلال تام”. في إشارة لأمر الوكيل العام للملك لدى محكمة الاستئناف بالرباط بفتح بحث قضائي حول ما أثير من معطيات تتعلق باحتمال خلط الورق بالدقيق.

يأتي هذا التصريح بعد أن أمر الوكيل العام للملك لدى “محكمة الاستئناف بالرباط” بفتح بحث قضائي حول المعطيات التي أثيرت بخصوص احتمال خلط الورق بالدقيق المدعم.

خطوة قضائية تستند لمقتضيات الفصل 107 من الدستور المغربي، الذي يؤكد على استقلال السلطة القضائية. حيث ينص على أن السلطة القضائية مستقلة عن السلطة التنفيذية. وأن الملك هو الضامن لاستقلال السلطة، مؤسسا لسيادة القانون ومحددا للعلاقة بين السلطات في المملكة. وأيضا المادة 40 من قانون المسطرة الجنائية التي تخول للنيابة العامة صلاحية فتح الأبحاث في الجرائم المحتملة. مبرزة على أن وكيل الملك “يتلقى المحاضر والشكايات والوشايات ويتخذ بشأنها ما يراه ملائما. كما يباشر بنفسه أو يأمر بمباشرة الإجراءات الضرورية للبحث عن مرتكبي المخالفات للقانون الجنائي ويصدر الأمر بضبطهم وتقديمهم ومتابعتهم.

المسافة الفاصلة بين الدلالات المجازية والاتهامات المباشرة بالفساد

بدأت الحكاية مع تصريح “النائب البرلماني أحمد التويزي”، خلال جلسة تشريعية بأن “بعض الشركات تطحن الأوراق فقط وتقدمها للمغاربة على أنها دقيق مدعم”. في إشارة رمزية إلى تزوير الفواتير واستغلال الدعم العمومي، وفق إفادته لاحقا.

حيث قذف به الجدل الواسع الذي أشعله التصريح، إلى نفي الاتهام المباشر مبرزا أنه استعمل تعبير “دقيق الورق” مجازا وليس حرفيا. مشيرا إلى “تزوير الفواتير واستغلال الدعم العمومي من قبل بعض الفاعلين”. مشددا على أن “الفساد ينخر منظومة الدعم”.

تجدر الإشارة إلى أن ميزانية دعم القمح في المغرب تصل إلى حوالي 16.8 مليار درهم سنويا، وفق بيانات قانون المالية لعام 2024. وهو ما يجعل هذا القطاع الأكبر استفادة من الدعم العمومي. لكنه في الوقت نفسه الأكثر عرضة للمضاربات والتلاعبات.

ويرى خبراء في الاقتصاد أن غياب الرقابة الصارمة “يجعل من الدعم المالي بيئة خصبة لتضارب المصالح”. فأي دعم غير مراقب بدقة يتحول من أداة تضامن إلى وسيلة للريع. 

على وقع التصريح القنبلة “أونسا” تكشف أرقام المراقبة والقرارات المتخدة

ارتباطا بارتدادات بركان التصريح المتفجر من داخل قبة البرلمان. أعلن “المكتب الوطني للسلامة الصحية للمنتجات الغذائية”، (أونسا). أن جميع المطاحن الصناعية المعتمدة تخضع لترخيص صحي ولشروط السلامة والجودة.

وكشفت “أونسا” عن نتائج مراقباتها المكثفة، مؤكدة أنه وخلال عامي 2024 و2025 تم إنجاز 212 زيارة تفتيش داخل المطاحن الصناعية المرخصة. مضيفة أن هاته الزيارات أدت لسحب 9 رخص فيما تم تعليق 4 رخص أخرى. بينما بلغت كمية الدقيق غير المطابق المتلفة أزيد من 71 طنا.

وأوضح “المكتب” في بلاغه أن هاته الإجراءات تأتي في إطار تفعيل المقتضيات المنصوص عليها في القانون رقم 28.07 المتعلق بالسلامة الصحية للمنتجات الغذائية، خاصة المواد 13 و14 منه التي تلزم الفاعلين باحترام شروط السلامة والجودة. حيث تحدد المادة 13 طبيعة المنتوج غير صالح للاستهلاك، فيما تحدد المادة 14 من ذات القانون المنتوج المضر بالصحة.

وتبرز القضية نقاشا أعمق حول شفافية تدبير الدعم العمومي وعدالته، في ظل دعوات لإصلاح شامل لمنظومة الدعم وتحويله نحو التحويلات المالية المباشرة للأسر ذات الدخل المحدود.

التفاعلات القانونية والمؤسساتية للقضية

تطرح القضية المثارة بحدة مسؤولية الدولة في تدبير منظومة الدعم وفق قواعد الشفافية والمساءلة المنصوص عليها في” القانون التنظيمي رقم 130.13″ لقانون المالية، الذي ينص في مادته 39 على “ترشيد نفقات الدعم وضمان توجيهها للفئات المستحقة”.

كما يعيد الملف إلى الواجهة ضرورة تفعيل “المرصد الوطني لمحاربة الرشوة”. إضافة لمراجعة منظومة صندوق المقاصة. وذلك تماشيا مع توصيات المجلس الأعلى للحسابات في تقريره السنوي لعام 2023 الذي حذر من “الضبابية في تتبع الدعم العمومي”.

وعموما فقطاع المطاحن بحاجة لإصلاح هيكلي عميق وليس إلى تجريم شامل. لأن المشكل في المنظومة لا في المهنيين وحدهم. كما أن الملف يعيد للواجهة ضرورة الرقابة البرلمانية والمجتمعية. فالحكامة ليست فقط محاسبة بل هي بناء ثقة بين الدولة والمواطن.

فقضية “دقيق الورق” ليست مجرد جدل سياسي. بل مرآة لاختلالات هيكلية في منظومة الدعم التي تمس بشكل مباشر قدرة المواطن الشرائية. فيما يرى اقتصاديون أن تحويل الدعم إلى نظام تحويلات نقدية مباشرة للأسر محدودة الدخل، كما اقترحه البنك الدولي في تقريره لعام 2024. قد يكون أحد الحلول لضمان عدالة اجتماعية أكبر وتقليص مساحات الفساد.

الأكيد أن ملف “دقيق الورق” يتجاوز حدوده التقنية إلى سؤال جوهري حول نزاهة إدارة المال العام. فما بين تحرك القضاء، وسحب التراخيص، وتصريحات المسؤولين. تبرز الحاجة الملحة إلى إصلاح شامل لمنظومة الدعم. وضمان أن كل درهم من المال العمومي يذهب إلى مستحقيه الحقيقيين.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.