خالد اليوسفي / باحث في الجيوبوليتيك والقضايا الجيوستراتيجية
لقد أفرزت الدينامية الاجتماعية الشبابية التي شهدها المغرب، خلال الآونة الأخيرة. تحولات لافتة في تمثلات “جيل Z” للفضاء العمومي. حيث انتقل جزء كبير من التفاعل السياسي والاجتماعي من الفضاءات الواقعية إلى الفضاءات الرقمية. وقد أدى هذا التحول لبروز فاعلية جديدة قائمة على التراكم الرقمي للوعي والاحتجاج والتعبئة. وهو ما جعل من وسائل التواصل الاجتماعي مختبرا فعليا لإنتاج المعنى السياسي لدى هذه الفئة.
غير أن ما يميز حراك “جيل Z” المغربي هو قدرته على الجمع بين التعبير الرقمي والتجسيد الواقعي، من خلال التحول السلس من الحملات الرقمية إلى مواقف ملموسة داخل الشارع العام. وهو ما تجلّى في عدة محطات عرف فيها الجيل الجديد كيف يفرض حضوره، خارج الأطر التقليدية للممارسة السياسية. وفي مقدمتها الأحزاب التي فشلت إلى حد كبير في مرافقة هذا التحول واقتحام هاته الفضاءات الجديدة لتأطير الشباب من خلالها.
إن “جيل Z”، في هذا السياق، لم يعد مجرد فئة عمرية، بل أصبح فاعلا اجتماعيا صاعدا يعيد رسم ملامح العلاقة بين الشباب المغربي والفضاء العمومي. ويؤسس لأنماط جديدة من المشاركة السياسية ترتكز على الوعي والمبادرة والتفاعل النقدي مع قضايا الشأن العام.
“جيل Z” في المغرب: الخصائص والتحولات
على خلاف الأجيال السابقة، لم يخضع “جيل Z” لعملية التنشئة الاجتماعية التقليدية التي كانت ترتكز على ثنائية الأسرة والمدرسة بوصفهما الفاعلين المركزيين في نقل القيم والمعرفة وإنتاج الهوية. فقد برزت وسائط جديدة للتنشئة تتجاوز المنظومات القيمية المحلية والمعارف الرسمية المقننة في المناهج الدراسية. لعل أبرزها الفضاءات الرقمية ومنصات التواصل الاجتماعي، التي باتت تشكل وسيطا اجتماعيا وثقافيا بديلا ذا تأثير حاسم في بناء الوعي الفردي والجماعي لهاته الفئة.
لقد أضحى الفضاء الرقمي، بالنسبة ل”جيل Z”، مجالا تعليميا تواصليا وهوياتيا بامتياز. يتم فيه إنتاج الرأي، وإعادة تشكيل المرجعيات الرمزية والمعرفية، والتفاعل مع قضايا الدولة والمجتمع والاقتصاد والسياسة والتنمية والتاريخ، في انفصال نسبي عن الأطر التربوية والسياسية التقليدية التي لطالما اختزلت المعرفة في المدرسة. والقيم في الأسرة.
وقد مكن هذا الفضاء المفتوح الواسع الانتشار هاته الفئة من التمرن على التعبير والنقاش العمومي، وبناء المواقف إزاء القضايا الواقعية داخل فضاءات لا تخضع للرقابة المباشرة. وهو ما يعيد تشكيل علاقة “جيل Z” بالمجال العام وفق منطق جديد، يقوم على التفاعل الأفقي، والانفتاح على التجارب الكونية، عوض التلقي العمودي من مؤسسات التنشئة التقليدية.
لقد كانت الرقابة الممارسة من طرف مؤسسات الدولة والمجتمع على الشباب وأفكارهم ومعتقداتهم ومرجعياتهم ومحاولة فرض نمط موحد من التفكير محط انتقاد دائم ومقاومة مستمرة. فقد كانت كل أشكال التعبير والإفصاح عن المواقف والمعتقدات محط رقابة وتتبع. بل وحتى انخراط واقتحام هؤلاء الشباب للدينامية السياسية والاقتصادية والاجتماعية عن طريق التنظيمات الحزبية والنقابية وجمعيات المجتمع المدني كان يخضع لشروط أيديولوجية تتجاوز الإيمان الفردي بمنطلقات وأسس التغيير إلى الاعتناق الجماعي للمعتقد الحزبي الذي يلزم الجميع بالتشبع به والدفاع عنه والتغيير من خلاله. وبمجرد بروز الفضاءات الرقمية ومواقع التواصل الاجتماعي وانتشارها والتي لم تكن الدولة قادرة على احتوائها وتوجيه نقاشاتها بواسطة أدواتها التقليدية المتمثلة في ( المدرسة، الأسرة، الأحزاب السياسية، النقابات، جمعيات المجتمع المدني…). سيشكل الشباب فضاء عموميا جديدا رقميا، تقدس فيه حرية التفكير والتعبير والاعتقاد والديمقراطية.
التفاعل الرقمي وتشكيل الوعي السياسي لدى “جيل Z”
تظهر معطيات الواقع المعيشي والتواصل اليومي أن “جيل Z” يستمد جانبا مهما من وعيه السياسي من خلال محتويات رقمية قصيرة، تفاعلية، وسريعة التداول. تنتشر عبر منصات مثل TikTok، Instagram، Discord، YouTube وX (تويتر سابقا). خارج دوائر الرقابة والضبط التقليدية.
لقد تحولت هاته الوسائط من أدوات للتواصل والترفيه إلى فضاءات موازية للتكوين السياسي غير النظامي. حيث يتاح للشباب الولوج الحر للمعلومة، وممارسة النقد السياسي، والتفاعل مع القضايا الوطنية والدولية، دون الخضوع للوصاية الإيديولوجية للمؤسسات التقليدية كالأحزاب أو المدرسة أو الإعلام الرسمي.
وقد أفرز هذا التفاعل نمطا جديدا من الوعي السياسي يمكن نعته بـ”الوعي الفردي الجمعي”. حيث يتم بناء المواقف السياسية من خلال تلاقي الذاتي بالجمعي. وتجميع التجارب الرقمية، والشهادات الميدانية، والرموز الثقافية المشتركة.
كما أسهم هذا النمط من التفاعل في تطوير قدرات “جيل Z” على الترافع والتعبئة الرقمية، معززا لديه الإحساس بالانتماء لقضايا كونية مثل العدالة الاجتماعية، البيئة، الحريات الفردية وحقوق الإنسان. والأكثر دلالة، والأهم من ذلك. أن هاته المنصات أصبحت، في بعض السياقات، تؤدي وظائف رمزية تعادل الصناديق الانتخابية، حيث تُبنى أشكال من الشرعية والمشروعية خارج الأطر المؤسساتية الرسمية. ويجسد هذا التحول نموذج دولة “نيبال”، التي شهدت موجة احتجاجات شبابية رقمية واسعة النطاق، انطلقت من منصة “Discord”، وانتهت بإقالة الرئيس، وانتخاب بديل له بدعم مباشر من شبكات الشباب النشيطين على الفضاء الرقمي، في سابقة تعبر عن انتقال الرقمي من التفاعل الرمزي إلى التأثير الواقعي في صناعة القرار السياسي.
من التفاعل الرقمي إلى الفعل العمومي: “جيل Z” وإعادة تعريف المشاركة السياسية
أمام هاته التحولات البنيوية التي طرأت على تمثلات “جيل Z” للمشاركة السياسية، والتي أفرزت تداخلا متزايدا بين الفضاء الرقمي والواقع المادي، وبين الافتراضي والحقيقي. بات من الضروري على مؤسسات الدولة، سواء كانت تربوية أو سياسية أو مدنية، أن تعيد تموقعها ضمن هذا المشهد الجديد الذي أعاد صياغة مفهوم المشاركة السياسية ليتجاوز التصور التقليدي الضيق القائم على ثنائية التصويت والانخراط الحزبي.
لقد أصبح الفعل السياسي لدى هذا الجيل يتخذ أشكالا متعددة، غير مؤسساتية في الغالب. قائمة على التفاعل السريع، والمبادرة الفردية، والترافع الرقمي. وهو ما يتطلب من الفاعلين المؤسساتيين تطوير آليات جديدة للاستماع، والوساطة، والاحتواء، بما يمكن من مأسسة هذا التفاعل وتحويله إلى طاقة ديمقراطية منتجة، بدل تركه يتقاطع مع مظاهر العزوف وفقدان الثقة.
بهذا المعنى، فإن مستقبل المشاركة السياسية في المغرب يرتبط بشكل وثيق بقدرة المؤسسات على فهم ديناميات هذا الجيل، ومواكبة تحولاته الثقافية والتواصلية. وذلك عبر فتح فضاءات جديدة للتعبير، وتشجيع المشاركة التفاعلية، وتجاوز الأطر التقليدية المغلقة التي لم تعد قادرة على احتواء الفعل الشبابي الجديد.بل يمكن القول إن أحد العوامل البنيوية التي تغذي عزوف الشباب عن المشاركة السياسية، يكمن في تأخر رقمنة المسار الانتخابي. سواء من خلال رقمنة الصناديق الانتخابية، أو عبر تطوير منصات افتراضية تفاعلية تتيح القيام بالحملات الانتخابية، وتيسر عملية التصويت عن بعد، بما ينسجم مع البنية الرقمية التي ينتمي إليها هذا الجيل. ويعيد بالتالي ربطه بالممارسة الديمقراطية من موقعه الطبيعي داخل الفضاء الرقمي.
إن مواكبة ديناميات الشباب وفهم أنماط تفاعله داخل الفضاءات الرقمية لم تعد خيارا متاحا أمام الدولة والأحزاب السياسية. بل تحولت إلى ضرورة استراتيجية تفرضها اعتبارات الأمن القومي ذاته.
ففي ظل التحول العميق الذي شهده الفضاء العمومي، وانتقال النقاشات العمومية وأشكال التعبئة والاحتجاج من المجال الواقعي، الخاضع لرقابة مؤسسات الدولة. إلى الفضاء الرقمي المفتوح. أصبحت هاته المنصات خارج نطاق السيادة التقليدية للدولة. ما يجعلها عرضة لاختراقات أجنبية أو تدخلات عدائية قادرة على التأثير في توجهات الشباب، وتأطيرهم نحو سلوكيات قد تنطوي على تحريض أو عنف أو زعزعة الاستقرار الداخلي.
من هذا المنطلق، فإن فهم التحولات الرقمية للشباب والتفاعل معها بوسائل حديثة، يعد رهانا استراتيجيا لحماية النسيج الاجتماعي وتعزيز الاستقرار السياسي. كما يمثل مدخلا أساسيا لتحصين الجبهة الداخلية في مواجهة التهديدات غير التقليدية في زمن الحروب السيبرانية وتأثيرات الإعلام الجديد.
تكشف التحولات الجيلية المرتبطة ب”جيل Z” في المغرب وما بعده من أجيال قادمة عن إعادة تشكيل عميق وبنيوي لتمثل الشباب للمجال العام والمشاركة السياسية. فقد أفرزت الدينامية الرقمية واقعا جديدا تجاوز أنماط التنشئة الاجتماعية التقليدية، لتصبح الفضاءات الرقمية منصات بديلة تنتج فيها المواقف، وتشكّل من خلالها الهوية السياسية، ويعاد فيها تعريف مفاهيم الانتماء والمواطنة، الاحتجاج، النقاش العمومي، الانخراط في قضايا الشأن العام.
لا تقتصر مشاركة “جيل Z” على التصويت أو الانخراط الحزبي، بل تمتد إلى التفاعل الرقمي، الحملات الإلكترونية، التعبئة لقضايا العدالة الاجتماعية والحقوق الفردية، وبناء وعي جمعي غير مؤطر مؤسساتيا. هذا التحول، وإن كان يعبر عن حيوية ديمقراطية جديدة، فإنه في الآن ذاته يطرح تحديات على الدولة ومؤسسات الوساطة التي لم تعد قادرة على احتواء هذا الفعل الشبابي المتحرر من الإيديولوجيا والوصاية والرقابة المؤسسية.
وعليه، فإن مستقبل المشاركة السياسية في المغرب رهين بمدى قدرة الفاعلين على رقمنة آليات المشاركة، فتح قنوات تفاعلية حقيقية وتأمين الفضاء الرقمي من الاختراقات الخارجية التي قد تستغل هشاشة الإطار المؤسساتي وغياب التأطير. كما أن هاته الرقمنة لا يجب أن تقتصر على الشكل، بل يجب أن تمتد إلى المضمون، من خلال تجديد الخطاب السياسي، وتكييفه مع لغة الجيل الجديد، بما يضمن تعزيز الثقة، والاستقرار، والأمن الرقمي في آن واحد.