في مشهدٍ يختزل تناقضات المشهد السياسي الجزائري. أعلنت السلطات، أمس الأربعاء. الإفراج عن الكاتب الجزائري الفرنسي، “بوعلام صنصال”. وذلك بعد أكثر من عام من الاعتقال، بقرار رئاسي قدم في ثوب “إنساني”.
لكن خلف هذا القرار تكمن أزمة ثقة سياسية وأخلاقية تهز بنية النظام الجزائري. كاشفة حدود المقاربة الأمنية التي اختارتها السلطة في مواجهة الكلمة الحرة بدل الحوار والتعددية.
خلفية الاعتقال: الكلمة التي أزعجت السلطة
لم يتم اعتقال “صنصال” لجرمٍ جنائي، بل بسبب مواقفه الفكرية والسياسية المؤيدة للوحدة الترابية للمملكة المغربية. وإعلانه الصريح اعترافه بسيادة المغرب الكاملة على أقاليمه الجنوبية. في تصريحات أدبية وسياسية متكررة منذ سنوات.
موقف ينسجم مع الشرعية الدولية وقرارات مجلس الأمن، قرار مجلس الأمن رقم 2703 لعام 2024. وهو ما شكل حرجا بالغا للنظام الجزائري الموظف لقضية الصحراء المغربية كورقة سياسية داخلية وإقليمية.
فبدل أن تختار السلطة في الجزائر فتح نقاش فكري لجأت للاعتقال والتضييق. لتسقط مجددا في فخ ما تسميه “الأمن الثقافي”. الذي تحول إلى قيد على حرية الرأي والتعبير.
انهيار الحجة الأمنية أمام الرأي العام الدولي
تحولت “قضية بوعلام صنصال” إلى ملف ضاغط على الدبلوماسية الجزائرية. بعد أن تبنتها منظمات دولية. ضمنها “منظمة العفو الدولية” و”هيومن رايتس ووتش” و”اتحاد الكتاب الأوروبيين”. معتبرين اعتقاله مسا صارخا بحرية الفكر والتعبير.
وقد خلص مراقبون إلى أن الإفراج عنه ليس تنازلا بل تراجعا اضطراريا، في مواجهة الضغوط الألمانية والفرنسية التي رأت في استمرار اعتقاله خطرا على العلاقات الثنائية وسمعة الجزائر الحقوقية.
الكاتب والمفكر الفرنسي، “برنار هنري ليفي”. وصف الإفراج عن “صنصال” بأنه سقوط للرقابة في امتحان الحرية. فيما كتب الروائي الجزائري، “كمال داوود”. أن السلطة التي تخاف من كاتب، تخاف من الحقيقة.
الوساطة الألمانية ودبلوماسية الوجوه الهادئة
بحسب مصادر دبلوماسية، فقد لعبت “برلين” دورا حاسما في تسوية الملف، عبر وساطة غير معلنة قادها دبلوماسيون ألمان ضمن مساعٍ لحماية أحد مواطنيها مزدوجي الجنسية.
تدخل أتاح للجزائر فرصة للخروج بمظهر متسامح عبر تبرير الإفراج بأسباب “صحية”. إذ غادر “صنصال” مباشرة نحو “برلين” لتلقي العلاج. ما سمح للنظام بتفادي المزيد من الإحراج أمام الرأي العام الدولي.
ارتداد الخطاب الأمني على السلطة الجزائرية
تكشف واقعة “صنصال” محدودية المقاربة الأمنية في التعامل مع الرأي المختلف. إذ تحول الاعتقال إلى عامل تعبئة للمثقفين والحقوقيين ضد النظام بدل إسكاتهم.
وفق خبراء فإن استعمال القوانين الجنائية لتكميم حرية التعبير. يتعارض مع التزامات الجزائر بموجب العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، الذي صادقت عليه عام 1989. وضع يقود للمطالبة بمراجعة القوانين المقيدة للحريات. خصوصا “المادة 87 مكرر من قانون العقوبات الجزائري”، التي يتم استخدامها لتجريم الرأي تحت غطاء الأمن القومي.
باريس والجزائر: دبلوماسية الحذر وامتحان القيم
تأتي هذه الواقعة لتعيد اختبار العلاقات المتوترة بين “الجزائر” و”باريس”. إذ وجدت “فرنسا” نفسها بين واجب الدفاع عن حرية مواطن يحمل جنسيتها. وبين حرصها على عدم تأزيم العلاقات مع “الجزائر” في ملفات الهجرة والطاقة.
أما الجزائر، فبدت مترددة بين خطابها الرسمي المدافع عن “حقوق الإنسان” في المحافل الدولية، وممارستها الميدانية التي تناقض تلك الشعارات.فعندما تقوم الجزائر بالإفراج عن “صنصال” بعد عام من السجن. فهي بهاته الخطوة لا تثبت براءتها. بل تدين نفسها.
الكلمة التي لا تسجن
تؤكد حادثة “بوعلام صنصال” أن السلطة التي تهاب الفكر، تضعف أمامه. وأن الكلمة الحرة لا يتم سجنها لأنها تتجاوز الجدران والحدود.
لقد فشلت المقاربة الأمنية في تكميم صوت آمن بمغربية الصحراء. فحولت الكاتب إلى رمز للحق والحقيقة. لتكشف أن الاعتقال السياسي لم يعد سلاحا ناجعا في زمن تتدفق فيه المعلومات عبر كل الحدود. فلا يمكن بأي حال من الأحوال بناء دولة حديثة بعقلية تقوم على تجريم الفكر. لأن الفكر هو صانع الدولة. فالإفراج عن “صنصال” لم يكن نهاية قصة، بل بداية مرحلة جديدة من الوعي الحقوقي في المنطقة المغاربية. لأن الواقعة أكدت أن حرية التعبير ليست منحة من الدولة، بل حق أصيل لا يسقط بالاعتقال. وأن الحقيقة، مهما تمت محاصرتها، تبقى أقوى من السلطة وأبقى من الخوف.